حكومات التكنوقراط الفلسطيني
ما يظهره الجدل العلني بين رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله، وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" عزّام الأحمد قبل أيّام على شاشات التلفزيون حول من الذي اختار، وكيف اختير، أعضاء الحكومة الفلسطينية، ليس سوى جزء يسير من مشكلات تتفاقم على خلفية تشكيل الحكومات غير الفصائلية، أو ما يعرف بحكومات المتخصصين (التكنوقراط).
ربما للخروج من مأزق التقاسم الفصائلي، وحتى مأزق التنافس داخل "فتح"، تم اللجوء منذ العام 2007 لحكومات تكنوقرط ترأّس وشكّل الجزء الأول منها سلام فيّاض، حتى العام الفائت (2013)، حين صار رئيس جامعة النجاح رامي الحمدالله رئيسا للحكومة. ولكن في حالة الحمدالله وبحسب تصريحاته المتعاقبة يمكن القول إنّه "يترأس" الحكومة (وتوضع الكلمة بين مزدوجين للتشكيك بسيطرته على ملفات العمل)، ولكنّه "لا يشكّل" الحكومة، أي لا يمكن أبداً استخدام العبارة التقليدية في تشكيل الحكومات: "شكّل الحكومة"، بل شُكّلت باتفاق الفصيلين "فتح" و"حماس" وأبلغ هو الأسماء (بحسب روايته)، وقبلها لأسباب مختلفة، من ضمنها أنّه بهذا يؤدي مهمة وطنية ضرورية لأجل الوحدة الوطنية، تَفرض عليه القبول بهذا الواقع الذي قد لا يقبله في وضع آخر، سواء من حيث طريقة تشكيل الحكومة، أو إدارتها.
بات هناك الآن وفي ضوء تجارب السنوات الفائتة تصوّر أنّ فكرة حكومة التكنوقراط تعاني عدة مشكلات، فرغم أنّ أحد الأهداف التي كان يمكن "التفاؤل" بتحقيقها هي الفصل بين الفصيل (فتح) والسلطة، فتتفرغ الحركة لإعادة بناء نفسها على أساس مهامها في مواجهة الاحتلال وقيادة المستوى الشعبي، فيما يتفرغ التكنوقراط للإدارة اليومية للشأن الحياتي والاقتصادي، ولا يعود الفصيل البوابة للحصول على فُرص عمل ودخل. وما ساعد على تقبل هذه الفكرة أنّ الاستعانة بأي كادر فلسطيني أمر يدخل في صلب التنظير والفكر الفتحاوي القديم، التي كانت تطرح نفسها أنّها ليست حزباً وأنّها حركة لكل الشعب. هذا الفصل الإيجابي لم يحدث.
حدثت سلسلة مشكلات، أولها أنّ عناصر القوة الشعبية التنظيمية صارت في يد الفصائل بينما الإدارة بيد وزراء وحكومات. فلا يمكن للحكومات حتى لو شاءت أن تضبط حركة الشارع، أو تجييشه لو احتاجت، في مواجهة الاحتلال، لأنّ هذا بيد الفصائل وأجهزة الأمن، ولم يحدث تقاسم عمل وتكامل بين الفصائل والحكومات، بل خلافات.
ثاني المشكلات، أنّ حكومة من خارج الفصيل، صارت فرصة سانحة لقيادات وكوادر في "فتح" للتنصل من القرارات الأمنيّة المختلفة وتحميل الحكومة (خصوصاً زمن فياض) المسؤولية، بل صار ممكناً لنقابات واتحادات طلبة وكوادر "فتح" التمتّع بلعب دور "المعارضة" والاحتجاج وتنظيم الإضرابات والإغلاقات وحتى المظاهرات ضد الحكومة، في الشؤون الحياتية والمالية المختلفة، على اعتبار أنّها ليست "فتح" وأنّ "فتح" هي التي تقود الاحتجاج.
إلى ذلك صارت محاولات قوننة العمل وتقليص الفصائلية، من قبل حكومات التكنوقراط، سبباً لغضب "فتحاوي" على اعتبار هذا استهدافا للفصيل، واتهم من مارسه بمحاولة بناء قاعدة قوة خاصة به وبشخصه، على حساب الفصيل. إذ اتضح عمليّا أنّ المطلوب وزراء ورؤساء وزراء ينفذون تعليمات دون أن يحاولوا رسم سياسات خاصّة بحكوماتهم، أو تنظيم الأمور بطريقة مختلفة، هذا مع الأخذ بالاعتبار أنّ عمليّة اتخاذ القرار داخل حركة "فتح" صارت تتم بطريقة مختلفة، في ظل عدم تولي عناصرها لمناصب تنفيذية، بمعنى أنّه صارت هناك حكومات لا تنفذ سياساتها الخاصة، ولا يسمح لها بتطوير هذه السياسات أو المساهمة بذلك جديّاً (كما حاول فيّاض فعله)، وصارت تُحمَّل وزر أي قرار أمني لا يعجب الشارع، كما أنّ "فتح" ذاتها لم تعد تملك مفاتيح العمل الشعبي في ظل انفصالها عن الحكومة ومواردها وإمكانياتها وترهلها الداخلي، فظهرت طريقة جديدة للإدارة قوامها حلقة من الأشخاص من خارج "فتح" وداخلها، بعيداً عن آليّات العمل الحكومي التقليدية، وعن القرارات الفصائلية والحركّية المتخذة في مستويات حركيّة فيها نقاش وجدل وصلاحيات التخطيط والتقرير والتنفيذ. وصارت حكومات التكنوقراط مرادفة لفكرة حكومة بدون صلاحيات أو قوة، فالرئاسة وأجهزة الأمن، تمتلك القرار فلسطينياً، والفصيل الحاكم انتقل للعب دور المعارضة، والاحتلال من جهة ثانية يمنع الحكومات من ممارسة صلاحيات حقيقية.
الغد 2014-12-09