"وما على الرسول إلا البلاغ"
المؤمنون بالقرآن الكريم يصدقون أنه نزل به الروح الأمين على قلب الرسول ليكون من المنذرين. وهو بالنسبة لهم نصوص قطعية الثبوت، ويتبعون آياته على هذا النحو مطمئنين بقلوبهم أنها نزلت من السماء. وحتى عندما تضيق عقولهم بمعناها ودلالاتها، يظلون مصدقين بقلوبهم أنها نزلت من السماء.
لكن الشريعة، بما هي فهم الدين وتطبيقه، مجهود إنساني عقلي، لتنزيل ما يؤمن به الناس على حياتهم وشأنهم. وفي ذلك، فإنهم يتعاملون مع السنة النبوية بعقولهم؛ فيملك المؤمن، كما الباحث، أن يستخدم المناهج العلمية والعقلية في التحقق من صحة نسبة الحديث إلى الرسول، أو صحة محتواه، كما أنه يجادل في دلالاته وتطبيقاته العلمية والعملية، أو يتأوّلها تأولا جريئا.
وردّ صحة أو تأوّل الأحاديث التي تتناقض مع القرآن مجهود علمي إنساني يحتمل الخطأ والصواب ونقص المعرفة، ويظل موضع جدل. ولن يكون ثمة فرق جوهري بين المقولتين: إنسانية ما ليس قرآنا، أو تأوّل السنة على نحو متوافق مع القرآن.
هناك ثلاثة مستويات للتعامل مع الرسول مختلفة عن بعضها. المستوى الأول، هو القرآن، أي ما أخبر به ونقل عنه أنه قرآن. أما الثاني، فالحديث النبوي الصادر عنه، ولكنه ليس قرآنا. وهناك مستوى الرسول الإنسان، بما هو بشر يمارس حياته اليومية قائدا وجارا وزوجا، يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق. فالقرآن هو ما أخبر به الرسول أصحابه أنه قرآن ونقلوه عنه على أنه قرآن. أما ما أخبر به الصحابة عن الرسول على أنه غير القرآن (السُنّة النبوية)، فهو مرجع علمي من الدرجة الأولى، يتقبله الناس المؤمنون وغيرهم على أنه المرجع الإنساني الأكثر صحة وأهمية وقبولا في فهم الدين وتطبيقه. أما الرسول الحكيم أو القائد أو القاضي أو الجار أو الزوج أو البائع أو المشتري، فهو انسان يخطئ في ذلك ويصيب، بما يملكه من قدرات إنسانية وعقلية ومنهجية. وهو يقول عن نفسه "إنما أنا بشر أقضي بينكم بما أسمع منكم، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار". وفي خبر غزوة بدر، كما عرضت في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال الرسول: لقد أشرت بالرأي. فنهض ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القلب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
الغد 2014-12-26