أوكرانيا «الأطلسية» روسيا «السوفياتية»!
لا يندرج قرار مجلس النواب الأوكراني الذي (تصفه الدوائر الغربية بالتاريخي) تخلّي كييف عن وضع الدولة «غير المنحازة» الذي أقرته أغلبية ساحقة (لم يعارضه سوى ثمانية نواب من أصل 450) في اطار مناكفة موسكو أو لمجرد إغاظة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بقدر ما هو خيار استراتيجي، لجأت إليه أغلبية برلمانية جاءت إلى الحكم بعد انقلاب شباط الماضي الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً فيكتور يانوكوفيتش، ما ترتب عليه تقدم أنصار الأوربة والأطلسة، الذين لا يخفون عداءهم لروسيا ولا يتورعون عن اتخاذ أي إجراءات أو قرارات لاستفزاز موسكو أو استدراجها، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية المُفرطة ضد دعاة الفيدرالية الذين تدعمهم روسيا، والتي ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على ما ذكرت تقارير منظمات حقوق الإنسان.
.. كل ذلك بات من الماضي، بعد أن لم يعد بمقدور أحد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فشبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول باتت جزءاً من الجغرافيا الروسية، وإمكانية تراجع إدارة بوتين عن قرار الموافقة على الاستفتاء الشعبي الذي جرى في القرم أيار الماضي والداعي للاتحاد مع روسيا الفيدرالية غير وارد مهما كان الثمن، في الوقت ذاته لم تعد امكانية لدى أنصار روسيا داخل أوكرانيا ذاتها (دعّ عنك منطقة دونباس) إحداث أي اختراق في الجدار الصلب الذي أقامه المتطرفون ضد روسيا والروس وفي مقدمتهم الميليشيا الفاشية المُسمّاة القطاع الأيمن (الذين قادوا احتجاجات ميدان الحرية ثم الانقلاب لاحقاً)، فضلاً عن أنصار رئيس الوزراء ياسينيوك، رجل الغرب الأول في كييف والذي رضخ رئيس الجمهورية «الجديد» بيترو بورشينكو للضغوط الغربية الرامية إلى تعيينه رئيساً للوزراء، وهو ما كان لهم في النهاية.
ما علينا..
أوكرانيا متجهة وبتسارع نحو الاندماج في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو تعهد كان قطعه على نفسه بورشينكو خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، ولم يكن يستطيع تنفيذه لولا ان اليمين الأوكراني المتطرف بتشكيلاته المختلفة، هو المهيّمن على البرلمان، وبالتالي فإن الأمور باتت جاهزة لاخراج «المسرحية» الجديدة، التي تبدو وكأنها محض لعبة ديمقراطية، لكنها في حقيقة الأمر فرض قواعد لعبة غربية جديدة على موسكو، التي يصعب عليها إن لم نقل من المستحيل، القبول بالأمر الواقع الجديد الذي تسعى إدارة أوباما وبدعم من أنصارها في أوروبا، إلى محاصرة روسيا وتركيعها وإعادتها إلى مجرد دولة كبيرة جغرافيا أو على النحو الذي وصفه الرئيس الروسي بوتين في مؤتمره الصحفي السنوي قبل أيام، بأنهم يريدون «محاصرة الدب الروسي ثم نزع أنيابه ومخالبه»..
ردود الفعل الروسية لم تتأخر (وان بدت تقليدية وحذرة وربما مرتبكة إلى حد ما)، إذ قال رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف: إن أوكرانيا يمكن أن تتحوّل إلى خصم عسكري «محتمل» لروسيا، فيما توقع رئيس الدبلوماسية الروسية لافروف، ان يؤدي هذا القرار إلى «نتائج عكسية».
فهل وصلت الامور الى نقطة اللاعودة؟
ثمة وجاهة في استنتاج كهذا, بعد أن فعلت العقوبات الاقتصادية الغربية (اقرأ الاميركية اساساً و...ضغوطاً), فِعلها في الاقتصاد الروسي وكشفت (وهذه ربما احدى حسناتها) مدى عقم الرهان الروسي على الارتباط باقتصادات الغرب وتكامله معها على النحو الذي كرّسه بوتين في «عهوده» الثلاثة والتي توّجتها اللهفة الروسية غير المسبوقة على نيل عضوية منظمة التجارة العالمية.
صحيح أن شعارات بوتين ورهانه على شعبيته العالية لدى المواطنين الروس، يمكن أن تُسهم في «صمود» الاقتصاد الروسي نسبياً وخصوصاً عدم اندلاع احتجاجات شعبية على خلفية تراجع سعر الروبل وتآكل الأجور وانخفاض عوائد النفط بعد هبوطه غير الطبيعي (اقرأ المسيّس) إلا أنه صحيح ايضاً ان اعتراف بوتين بأن الاقتصاد الروسي يحتاج الى «عامين» للعودة الى الاستقرار, يستبطن رهاناً غير مضمون اذا ما سارت الامور على النحو الذي تسير عليه الان.
أين من هنا؟
هذا يعني أن التوتير (حتى لا نقول التصعيد) العسكري، يمكن أن يُحقّق أهدافاً «جانبية» اخرى, على صعيد الاقتصاد والعقوبات خصوصاً, ما يعني أنه في حال تقدمت كييف بطلب رسمي الى الناتو, فإن موسكو قد تلجأ الى تنفيذ تهديدها بوضع اسلحة نووية في شبه جزيرة القرم, وهو أمر ترفضه واشنطن وتُحذّرِ منه, فضلاً - بالطبع - عن احتمال توفير مزيد من الدعم لدعاة الفيدرالية في الدونباس وبما ينسف بالتأكيد اتفاقية مينسك التي تمت برعاية روسية اوروبية، بكل ما يعنيه هذا من احتمالات قبول موسكو طلب جمهوريتي دونستيك ولوغانسك الانضمام الى روسيا الاتحادية, على النحو الذي حدث في شبه جزيرة القرم.
عندها.. يحتاج الطرفان الى «سلالم» وليس مجرد سلّم واحد للنزول عن «الشجر» العالي الذي صعدا اليها، فهل تنضم اوكرانيا «فعلاً» الى الناتو؟ وهل تبدأ روسيا التحوّل الى صيغة سوفياتية «ما» وبخاصة في الاقتصاد والسياسة والحرب الباردة المفروضة عليها؟
لا أحد بمقدوره.. التنبؤ!
الرأي 2014-12-26