مصير القدس . . الأمر أخطر من مجرد حفريات
ما الذي يجري في القدس؟... وهل يمكن أن تضيع الحقيقة وسط سحابات الدخان الكثيفة من الأكاذيب والمغالطات الإسرائيلية التي ترتدي أحيانا ثوب الأبعاد الدينية والتاريخية التي تفتقر إلى الدقة وترتدي في أحيان أخرى ثوب الضرورات الإنسانية لتلبية ما يسمى بالنمو الطبيعي للمستوطنات غير الشرعية.
ليست القضية قضية حفريات تنتهك بها "إسرائيل" حرمة المسجد الأقصى لتهدد أساساته وتمهد لتغييرات ديموغرافية بعد إزالة تلة بوابة المغاربة.. وإنما القضية هي قضية القدس الأسيرة كلها!
والحقيقة أن قضية القدس تواجه في السنوات الأخيرة تحديات بالغة الخطورة تستهدف إيجاد أمر واقع جديد يستند إلى رجحان كفة ميزان القوى لمصلحة "إسرائيل"، من أجل تهويد المدينة تهويداً شاملاً وبشكل متسارع ومتصاعد جغرافياً.. وديموغرافياً وسياسياً.. وتشريعياً وعمرانياً!
وكل من يتابع أوضاع القدس في السنوات الأخيرة يتبين كيف أن "إسرائيل" لم تترك وسيلة أو غاية لكي تنجز بأسرع ما يمكن هدف التغيير الديموغرافي عن طريق مصادرة الأراضي، وهدم المنازل العربية، وإقامة المستوطنات اليهودية، ووقف إعطاء أي تراخيص بالبناء للسكان العرب، وممارسة شتى أنواع الضغوط لإجبار السكان العرب على الهجرة، والرحيل، وفي مقدمتها الضغوط المادية، والنفسية بالحصار، وزيادة الضرائب، وإغلاق المؤسسات، وسحب الهويات.
ولابد أن يقال إنصافاً أن عدم تمكن "إسرائيل" من حسم صراع القدس لمصلحتها على أرض الواقع حتى الآن يرجع في المقام الأول لصمود سكان القدس وإصرارهم على مواصلة التصدي بكل قواهم لكل أنواع الضغوط التي تمارس ضدهم برغم واقع السيطرة الفعلية ل"إسرائيل" على القدس عسكرياً، وسياسياً، وإدارياً، وتشريعياً منذ عام 1967 وحتى اليوم.
وليس خافياً على أحد الآن في المنطقة، أو على امتداد رقعة المجتمع الدولي أن وتيرة العنف، والإرهاب ضد الفلسطينيين بصفة عامة، وضد سكان القدس بصفة خاصة، قد تعاظمت، حيث زادت عمليات المصادرة، وإقامة المستوطنات وهدم المنازل، وسحب الهويات، واستعمال العنف غير المشروع مع العرب، إلى الحد الذي أصبح فيه المتطرفون ينظرون إلى جرائم قتل وطعن العرب في القدس على أنها نوع من التسلية!
ولا شك في أن سياسة الإغلاق وإحكام الطوق الأمني تستهدف أساساً إبقاء وتكريس السيادة الإسرائيلية غير المشروعة على القدس، ومحاولة ترسيخ حقائق جغرافية وديموغرافية جديدة عن طريق بناء طوق من المستوطنات حول القدس، بحيث يكون من الصعوبة بمكان تغييرها في إطار أي حل يتفق عليه مستقبلاً.. فضلاً عن الهدف الأكثر خبثاً وشراسة وهو فصل مدينة القدس جغرافياً وسكانياً عن بقية الأراضي الفلسطينية وقطع أواصر العلاقات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية بين القدس، والدولة الفلسطينية المرتقبة!
ولعل ذلك هو ما يفسر مجازفة "إسرائيل" بتحدي المجتمع الدولي كله بهذه الحفريات المستفزة فقد كان هدفها أن تفرض أمراً واقعاً جديداً في القدس، لكي تضع الجميع أمام هذا الأمر الواقع، وأن تقول لهم إن القضية قد انتهت ولم يعد هناك أي مجال للتباحث أو التفاوض سوى ما يمكن أن تتكرم "إسرائيل" بالموافقة على التخلي عنه من بعض الأراضي المحتلة، أما القدس فليست فيها بوصة واحدة للتفاوض أو المساومة!
---
وربما يكون ضرورياً ومفيداً قبل أن ننشغل جزئياً بقضية الحفريات الإسرائيلية بالقرب من حرم المسجد الأقصى الشريف أن نلتفت وبعناية لما هو أهم وأخطر!
أريد أن أقول بوضوح.. إن رفضنا واحتجاجنا وغضبنا من هذه الحفريات المستفزة لا ينبغي له أن يعمي عيوننا عن رؤية الخطر الأكبر وهو خطر تهويد القدس بأكملها ومحاولة إخراجها تماماً من معادلة الحل النهائي للمشكلة الفلسطينية.
إن ما يجري الآن في القدس ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة ضمن مخطط قديم قدم الحركة الصهيونية نفسها!
ولو أننا راجعنا مسيرة المخطط الإسرائيلي لاستلاب القدس لوجدنا أن كل شيء قد سار على الطريق التدريجي الذي حددته الحركة الصهيونية منذ نشأتها.. ففي حرب 1948 استطاعت "إسرائيل" أن تحتل القسم الغربي للمدينة وتضعه بالكامل تحت سيطرتها ليصبح جزءاً أساسياً من الدولة اليهودية برغم أنف قرارات المجتمع الدولي التي نصت على تدويل القدس بكامل شطريها.. وفي حرب عام 1967 تقدمت "إسرائيل" خطوة أخرى على طريق هدفها، وذلك عندما نجحت في احتلال القسم الشرقي العربي الذي كان خاضعاً للسيادة الأردنية منذ عام 1948 لتتهيأ لها الفرصة لبدء العمل على وضع شعار القدس الموحدة عاصمة أبدية ل"إسرائيل" موضع التنفيذ.
وقد جاءت السنوات العشر الأخيرة التي تجمدت فيها عملية السلام تماماً بمثابة أخطر وأهم مرحلة في تنفيذ مخطط التهويد والابتلاع الكامل للقدس، حيث بدا الأمر وكأن "إسرائيل" في حالة سباق مع الزمن!
---
والحقيقة أن أي نظرة محايدة على ما أقدمت عليه "إسرائيل" في السنوات الأخيرة من إجراءات تهويدية بدءاً بعمليات التوسع الاستيطاني ووصولاً إلى هدم المباني العربية من أجل تفريغ القدس من هويتها العربية بشرياً وعمرانياً وتراثياً لا يمكن أن نجد وصفاً دقيقاً لهذه الإجراءات سوى أنها عمليات تطهير عرقي قذرة تفوق كل ما عرف على طول التاريخ من سياسات عنصرية ووحشية!
وربما يكون ضرورياً ومفيداً أن نعود إلى الوراء قليلاً وأن ندرك أن نتائج حرب يونيو 1967 قد وفرت ل"إسرائيل" فرصة كانت تحلم بها وتتوق للإمساك بها منذ إنشاء الدولة العبرية.. وكما حدث في حرب 1948 من مجازر لترهيب العرب وتخويفهم ودفعهم للهجرة والرحيل، حدث الشيء نفسه عام 1967 وكان أبرزه في القدس التي خرجت منها طوابير النازحين تحت طلقات الرصاص وهدير الدبابات، ولولا أن المقاومة الشعبية الفلسطينية تصدت لهذا التفريغ العرقي للسكان العرب ودمرت العديد من الباصات التي كانت قد أعدتها "إسرائيل" للمساعدة في نقل السكان العرب إلى جسر اللنبي للعبور إلى الأردن لأصبح حجم وعدد النازحين من القدس رهيباً وبلغ حد التفريغ الكامل للمدينة المقدسة من سكانها العرب.
وليست المصادرة والهدم والاستيطان وإجراءات الترحيل القسري هي كل أدوات "إسرائيل" لتفريغ القدس من هويتها العربية، ولكن هناك بندا بالغ الأهمية والخطورة في إطار هذه الإجراءات الإسرائيلية الخبيثة وهو بند الضرائب.
إن المواطن العربي في القدس مطالب بسداد أكثر من عشرة أنواع من الضرائب، حيث يتم تحصيلها بالقوة والإكراه وبتباين شديد عن المستوطن اليهودي، حيث يتعرض المواطن العربي للإجحاف والظلم ومخالفة جميع القوانين الدولية التي تمنع جباية كل هذه الضرائب من الرازحين تحت سلطة الاحتلال.
والأغرب والأبشع أن "إسرائيل" لا تدوس فقط على القوانين والمبادئ الدولية التي تحرم عليها جباية الضرائب من السكان العرب باعتبارها سلطة احتلال، وإنما تأخذ من السكان العرب ضرائب بلدية متساوية مع ما تأخذه من السكان اليهود برغم تفاوت الدخول ولا توفر للأحياء العربية أي خدمات من تلك التي تتمتع بها الأحياء اليهودية في المدينة.
وكما نرى فإن الأمر أكبر وأخطر من حفريات مستفزة وأكبر وأخطر من صيحات احتجاج عربية وإسلامية!
---
وأصل إلى قرب الختام في هذه الإطلالة الخاطفة بشأن عاصفة التهويد التي تتعرض لها مدينة القدس، لكي أؤكد أن هذه العاصفة الهوجاء هي الدليل الأكبر على عدم مصداقية القبول الإسرائيلي بالسلام الحقيقي، خصوصا وأن الإسرائيليين هم أول من يدرك استحالة التوصل إلى حل نهائي للصراع لا يتضمن عودة القدس العربية لأهلها!
ولعل ذلك ما يدفعني إلى تجديد صحة اليقين بأن المأزق الراهن لعملية السلام على المسار الفلسطيني ليس - كما يظن البعض - بسبب عمق واتساع الخلافات القائمة بين الجانبين حول رسم حدود الدولتين فقط، وإنما الصعوبة الحقيقية في إصرار الإسرائيليين على تمييع القضية، ورفض الإمساك المشترك مع الفلسطينيين بالمدخل الصحيح للعملية التفاوضية الذي يفترض أن يكون مبنياً على قاعدة القبول الواضح والصريح بمرجعيات التفاوض وبالذات بالنسبة لقضيتي القدس واللاجئين.
إن المرجعيات التي انطلقت علي أساسها المفاوضات مرجعيات واضحة وصريحة، لكن الإسرائيليين يرفضون بإصرار دفع استحقاقاتها الكاملة - خصوصاً في مسألة القدس - بدعوى أنها مجرد قواعد للاسترشاد بها، وليست صكوكاً ملزمة يجب تنفيذها.. وتلك مغالطة لم ترد في سجلات التفاوض على مر التاريخ!
ثم إن الإسرائيليين يكررون الزعم بأنهم راغبون في التوصل إلى تسوية، لكنهم باسم هواجس الأمن وتحت نزعات التوسع يجاهرون بحقهم في رفض أهم الركائز التي يمكن أن يقوم عليها أي سلام حقيقي بدءاً من القدس واللاجئين ووصولاً إلى المستوطنات وخطوط 4 يونيو 1967. وإذن فإن المسألة ليست مسألة تعديلات طفيفة، وإنما المطلوب تنازلات جوهرية.
والمعنى من وراء كل ذلك هو أن المصاعب الحقيقية التي تهدد عملية السلام تكمن في استمرار عجز "إسرائيل" عن الاختيار الضروري بين استمرار احتلالها للأرض وبين تحقيق السلام وضمان الأمن!
وإذا كان من الجائز فهم بعض دوافع التخويف والحذر التي تعشش في بعض العقول الإسرائيلية نتيجة ترسب الشكوك على مدى سنوات طويلة من ناحية والخضوع للمعتقدات والأساطير التوراتية من ناحية أخرى.. فإن ذلك لم يعد له مبرر الآن، بعد أن قدمت الأطراف العربية أدلة مؤكدة حول صدق قبولها للسلام واستحقاقاته الواجب عليها سدادها.
ولعل ما يثير الحيرة حول معطيات الموقف الإسرائيلي المتردد إزاء عملية السلام أن قطاعاً لا يستهان به من الرأي العام الإسرائيلي يدرك تمام الإدراك أن استمرار التمسك بعدم التخلي عن القدس يعني ضياع الفرصة الراهنة لتحقيق السلام، وبالتالي فإنه سوف يكلف "إسرائيل" ويكلف المنطقة بأسرها.. ما هو فوق الطاقة.. وما هو فوق الاحتمال!
---
وهنا يكون السؤال الضروري هو: ماذا يريد الإسرائيليون إذن؟!
لقد كان مطلوباً من العرب أن يقدموا أدلة كافية على حسن النيات والمقاصد.. وقد فعل العرب ذلك وبأكثر مما كان مطلوباً إلى حد أن بعض الدول العربية أرادت - وبحسن نية - أن تثبت مصداقية القبول العربي بالسلام فسارعت دون أن تكون عليها أي استحقاقات تدفعها للمبادرة بإعطاء إشارات حقيقية حول تخطي حساسية التطبيع وإبرام العديد من الاتفاقيات والقبول بتبادل الزيارات.. لكن المنهج الإسرائيلي المتعنت والمستفز والعدواني لم يترك لأحد فرصة مواصلة الرهان على هذا الطريق الملغوم؟!
وكان مطلوباً من العرب أن يختبروا قدرتهم على الصبر، وقد فعلوا ذلك.. لكن حبال الصبر طالت بأكثر مما كان متوقعاً، واكتشف العرب أن استحقاقات الاتفاقيات التي وقعتها "إسرائيل" بنفسها لم يتم سدادها، برغم فوات أوان استحقاقها، واستمرار الإسرائيليين في تكرار لعبة عدم احترام التوقيتات المتفق عليها ثم زاد الطين بلة بهذه الاستفزازات والانتهاكات الصارخة في محيط المسجد الأقصى.
فهل يمكن في ضوء كل ما حدث من جانب "إسرائيل" أن يكون غريباً فهم دوافع وأسباب تعمق الشكوك العربية والفلسطينية في جدوى مواصلة الرهان على عملية السلام؟
هذا هو السؤال... وهذا هو التحدي لأن الخطر لا يتهدد القدس وحدها ولا القضية الفلسطينية بذاتها... وإنما الخطر على الشرق الأوسط بأسره