قرأت...
أبدأ من البداية، فقد وجدت في غرفة الفندق «فورسيزنز» في باريس مجموعة من الكتب اخترت منها «عصر العقل» أو الرشد لجان بول سارتر مترجماً الى الإنكليزية، وعندما لم أكمل القراءة في الليلتين اللتين قضيتهما هناك عرضت أن أشتري الكتاب فقيل لي إنه لي مجاناً كزبون قديم.
في فندق «فورسيزنز» في القاهرة بعد أسبوع وجدت نسخة من القرآن الكريم مع ترجمة مقابِلة الى الإنكليزية هي جهد الدكتور محمد طارق الدين الهلالي والدكتور محمد محسن خان، وكلاهما أستاذ سابق في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
القرآن المترجم من نشر دار السلام في الرياض وهو ضمّ في بدايته كتاباً من إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية وقعه الرئيس العام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز يقول إن الأستاذين ترجما معاني القرآن الكريم وصحيح الإمام البخاري وكتاب اللؤلؤ والمرجان الى اللغة الإنكليزية ترجمة صحيحة فلا مانع من الفسح لهذه الكتب بالدخول الى المملكة وتداولها لعدم المحظور فيها.
عندي في البيت نسخة من القرآن الكريم مترجماً الى الإنكليزية درس عليها ابني في الجامعة، إلا أن ترجمة الأستاذين الجامعيين ضمت شرحاً لمعاني بعض الكلمات والسور. وطلبت من الاستقبال في الفندق أن أدفع ثمن الكتاب، وقال لي الموظف إن النسخة هدية لي.
وهكذا كان ووجدت نفسي بين طائرات وفنادق على مدى أسبوعين وأنا أقرأ كلام الله، وأقرأ رواية فيلسوف وجودي فرنسي تبع نيتشه في القول «الله مات» وهما كلمتان تستفزان أي مؤمن إلا أن لهما معنى أوسع، فالفيلسوفان الألماني والفرنسي وأتباع فكرهما لم يكونوا مؤمنين أصلاً، لذلك لا يمكن القول عنهم إنهم كفروا، لأنهم لم يبدأوا بالإيمان، والمقصود أن الله كان الحكم بين الناس ويتبعون ما يسمح به وما ينهى عنه، ولكن بعد عصر النهضة، أو التنور في الغرب أصبحت العلاقة بين الناس تحكمها الديموقراطية والقوانين والأنظمة التي أفرزتها هذه الديموقراطية.
بكلام آخر، الديموقراطية أصبحت المرجع في العلاقات الأفقية بين الناس، أما الله فهو المرجع في العلاقة العمودية بين كل مؤمن وربه.
طبعاً غالبية المسلمين تقول إن الإسلام دين ودنيا، غير أن النهضة الغربية، في القرن الثامن عشر جاءت بعد قرون من سيطرة الكنيسة وحروبها، وسعت الى فصل الدين عن الدنيا، والدستور الأميركي الذي وضعه الأباء المؤسسون شدد على ذلك الى درجة أن الملحدين استطاعوا عن طريق المحاكم، منع الصلاة المسيحية في المدارس الأميركية التي تتلقى دعماً من الحكومة.
جان بول سارتر كتب ثلاثية تحت عنوان «طريق (أو سبيل) الحرية»، ونشرت الرواية الأولى سنة 1945 أي سنة تحرير فرنسا، وكان عنوانها «عصر العقل» أو الرشد أو المنطق، ولعلها أفضل الروايات الثلاث، والمؤلف يطرح أفكار الحرية والوجود والعدم، عبر يومين في حياة بطلها ماتيو ديلارو، وهو أستاذ فلسفة، ومحيطه بين مقاهي وحانات مونبارناس، وحاجته الى أربعة آلاف فرنك لتجهض عشيقته مارسيل، والسنة هي 1938 وشبح الحرب يلقي بظله على أوروبا.
كنت أقرأ لسارتر في الطائرة وأقرأ ترجمة القرآن الكريم في الفندق، أو العكس، وبما أنني طالب لغة فقد سرني أن أجد بين قوسين ترجمة أو شرحاً لكلمات تحتاج الى شرح مثل: الحاقة ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة، وهذا في سورة الحاقة. أو: ان الإنسان خلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا. وقد وجدت في ترجمة الكلمتين معنى عدم الصبر والإزعاج لا الخوف كما في الاستعمال الشعبي.
وكان الشرح كافياً وافياً لآيات من نوع: والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا، والناشرات نشرا. فالــفارقات فرقا. عذرا أو نذرا، من سورة المرسلات. ومثل ذلك: والنـــازعات نزعا. والناشــطات نشطا. والسابحات سبحا... حــتى: يوم ترجــف الراجفة. تتـــبعها الرادفة، من سورة النازعات.
الفعل الثلاثي المجرد قَسَطَ تعني عدل، ولكن قسوط معناها جور. وفي القرآن الكريم: ان الله يحب المقسطين، أي العادلين، وأيضاً: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا. وهي هنا بمعنى جائرون، ولا توجد سوى مرتين بهذا اللفظ والمعنى في سورة الجن، والترجمة تشرح ذلك جيداً.
هل نستطيع يوماً أن نوفق بين العلم والدين؟ كنت أقرأ وأسأل نفسي هذا السؤال عندما وقعت على مقال كتبه الطبيب روبرت لانزا خلاصته أن العلم يستطيع إثبات وجود الله، فالعلم الحديث عمره بضع مئة سنة فقط، والفيزياء أقل من مئة سنة، ولكن ربما استطعنا في ألف سنة من الآن أن نفهم الحقيقة المادية - الروحية كما لا نستطيع حالياً.
ربما، غير أنني اعتقدت أنني أربكت عقل القارئ وعقلي بما يكفي ليوم واحد فأتوقف.
khazen@alhayat.com