أفول نجم تركيا الإقليمي
كانت بداية الألفية الثالثة، بمثابة عقد ذهبي للسياسة التركية في الشرق الأوسط، والتي تميزت بسياسة "صفر مشاكل" مع الجيران، وعلاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي. وبدت تركيا بأنها دولة تتبع سياسات متوازنة تجاه الأطراف كافة في المنطقة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد حققت نجاحات اقتصادية مميزة، ونسجت علاقات اقتصادية مع الجيران على الرغم من التناقضات بين القوى الإقليمية، وتناقض سياسات بعضها مع الولايات المتحدة حليفة تركيا الموثوقة.
لكن مع هبوب رياح التغيير في المنطقة وخلال الانتفاضات الشعبية، اختارت تركيا الاصطفاف مع حركات الإسلام السياسي التي كانت تتمتع بشعبية وازنة في العديد من الدول العربية. ودعمت تركيا هذه الحركات، وبخاصة "الإخوان المسلمين"، أينما وجدت؛ من السودان إلى العراق وليس انتهاء بدعمها لحركة حماس في فلسطين. في المقابل، كانت تركيا قد أقامت علاقات جيدة مع الأنظمة التي كانت تقمع حركات الإسلام السياسي، ولاسيما "الإخوان المسلمون"، مثل سورية، ومصر، وليبيا.
لكن مع مرور الوقت، ومع تسلم حركات الإخوان المسلمين السلطة في تونس ومصر، تحولت النظرة في تركيا إلى اعتبار هذه الحركات حلفاءها الطبيعيين. وليس سراً أنها حاولت، وبدرجة معقولة من النجاح في البداية، إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بأن الحركات الإسلامية جديرة بالدعم، بسبب الدعم الشعبي الذي تحظى به هذه الحركات، وأنها سوف تحترم الديمقراطية، وفي حالة مصر لن تغير شيئاً فيما يتعلق باتفاقية السلام.
اصطدم هذا التحول مع بعض الدول في المنطقة التي كانت تنظر لحركة الإخوان باعتبارها أكبر تهديد لمصالحها. وتعارض ذلك أيضاً مع كثير من القوى السياسية العلمانية وغير العلمانية التي كانت جزءاً مهماً من الانتفاضات السياسية، وسعت لإقامة حكم ديمقراطي في بلدانها.
الكبوة الكبرى للسياسة التركية كانت من خلال اصطفاف تركيا مع قوى المعارضة في الأزمة السورية، وبخاصة الحركات الإسلامية. إذ وجدت تركيا نفسها، ومع مرور الوقت، في مواجهة أو خلاف مع القوى الإقليمية نفسها، مثل سورية، ومصر، والعراق، وإسرائيل. لا بل أكثر من ذلك، فإن الدعم العلني والسري للتنظيمات الإسلامية المتطرفة في سورية وغيرها، وضع تركيا في مواجهة غير معلنة مع حلفائها الغربيين والعرب على حد سواء. والبعض يعتقد أن أردوغان ذهب أبعد مما تسمح به الأعراف الدبلوماسية في انتقاد الإطاحة بمحمد مرسي، والموقف المتشدد من مصر ما بعد مرسي، وانتقاداته اللاذعة والعلنية للرئيس عبدالفتاح السيسي.
إن الصورة التي رسمتها تركيا لنفسها في المنطقة بوصفها نموذجاً لدولة إسلامية وديمقراطية في الوقت نفسه، تأثرت سلباً بعد التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على السياسة الداخلية لأردوغان وحزبه. والطريقة التي تم التعامل بها مع المتظاهرين كشفت طبيعة الحزب والنظام الحاكم في تركيا، ما أدى الى سقوط القناع عن حزب العدالة والتنمية، وانتهاء أسطورة النموذج التركي الذي شغل العديد من المفكرين العرب، في محاولة لإيجاد مخرج للأزمات العربية. وكشفت أطماع تركيا في المنطقة، ومحاولتها لإحياء العثمانية عبر بوابة دعم الحركات الإسلامية في المنطقة.
بعد أربع سنوات من الانتفاضات في العديد من الدول العربية، وبعد الصعود الكبير للنجم التركي كقوة إقليمية مؤثرة، تجد تركيا نفسها اليوم في وضع لا تحسد عليه. وقد بدا واضحاً للمراقبين أن السياسة التركية في المنطقة كانت مدفوعة بالأيديولوجيا وليست البراغماتية التي ميزت السياسة التركية في العقد الماضي. وبشكل خاص، فقد خسرت تركيا الرهان على الحركات الإسلامية، ووجدت نفسها في عزلة سياسية إقليمية ودولية، وخسرت قدرتها في التأثير، وموقعها الجيواستراتيجي، وتحولت إلى دولة إقليمية منزوعة الدسم وفاقدة لمكانتها الإقليمية الخاصة.
(الغد 2015-04-23)