المقاهي الثقافية

لم تعرف الاردن ظاهرة المقاهي الثقافية، ولن تعرفها على الأغلب.. وقيام بعض منها لا يعني أنها أصبحت ظاهرة، فالمقهى الثقافي، ابتداء، ليس استيرادا أو تجميعًا لبضائع جاهزة او شبه جاهزة، اسمنت، بلاط، كراسي، شاي، دخان، ورق رصيف عريض، درج خشبي معمم من دبش سقف السيل.. وما تقذفه الاذاعة والتلفزيون ودور النشر من ستوكات ثقافية، فالثقافة ليست شهادة من دائرة المسقفات او الصحة او اية مؤسسة بلدية او حكومية.
والمقهى الثقافي ليس حيطانًا، مفتوحة او مسقوفة بالجبص أو الطين، يتكدس تحتها متزلفون للشعر والأيديولوجيا.
فمن الصعب جدًا بعث الحياة في الكوابيس والتهويمات وكاسات الشاي والجيتان والقبعات ان لم تكن كل هذه الاشياء خاصة الاذان والحيطان نفسها تخفق بالحياة.
المقهى الثقافي، حالة تواطؤ عفوي بين المكان والكائن.. بين اعماق البحث، النهر، البرية وبين أعماق الناس.. تحريض متبادل على الخلق.. في المدن البحرية، الزرقة الخالصة للراوي الأعظم البحر، الذي يختزن البكاء الاول للام القتيلة في الربوة الاولى، ويمنح الرواة خيالاتهم وصبرهم.
وفي مقاهي النهر، في بط الماء الذي يمضي في دفاتر الشعراء مثل نداء خفي ويرن يرن.
وفي البراري عرائش الكرامين التي تسيل من الفادي إلى العارفين.. والنخيل الوافر الطول في معراج الطيور.
والمقاهي، نساء ما، خلاسيات، قمحاويات، شقراوات، مكتنزات، ضامرات تستثير الكلام الدافق بين الحنايا والأصابع.. قرى حميمة في مدن الخماسين، حيث الغبار والبطش والسفالات وما عداها ضرب من الانتحالات.
بعيدٌ عن البحر والنهر والبراري، لا مقاهي، ومن الصعب ان تكون سوى افتئات محض، وتدخل غير مشروع في شؤون الماء والنار.. ظلال سفيهة لأقمار ترقد في كهفها البحري أو الرملي، كل مساء، وتنفر خفافًا وثقالًا عن القصائد والثرثرات التي تحاك باسمها زورًا وبهتانًا في المدن الباردة.
(العرب اليوم 2015-06-07)