هجرة العقول لها مبرراتها

يفني الأستاذ الجامعي في بلادنا ما يقرب من ربع قرن على مقاعد الدراسة، ويتحمل كل الصعوبات التي تواجهه على طريق العلم، وتوفير النفقات اللازمة لذلك. ويتشارك كثيرون في مساعدة أحدهم للوصول إلى شهادة الدكتوراه، لتبدأ بعدها حياة مهنية تقليدية براتب دون ألف دينار شهريا في إحدى الجامعات التي قد تعمل على تقييد العقول منذ اللحظة الأولى، أكثر من كونها فضاء للإبداع والبحث والمعرفة.
دع عنك الراتب الشهري، فهناك معاناة ما بعدها معاناة في التدريس وإيجاد جسور المعرفة بين أستاذ جامعي غرق مطولا في بطون الكتب وبين طلبة لم يقرأ جلهم كتابا في حياته. وكم كان محزنا ذاك "الفيديو" الذي نشر مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي لأستاذ دكتور في كلية الهندسة، يعبر عن إحباطه من طلبته ومستواهم. كان الحديث بحرقة لم تخفها الحروف والألم يعتصر أستاذا يعتقد أن طلبته وصلوا إلى صفوف الهندسة بمحض الصدفة أو الخطأ.
بسبب هذا وغيره، خسرت الجامعات الأردنية في السنوات الخمس الأخيرة أكثر من 3 آلاف باحث وأكاديمي. وهو رقم مقلق كيفما نظرت إليه. صحيح أن من حق هؤلاء الباحثين والأكاديميين السعي إلى تحسين ظروفهم المعيشية والاقتصادية، لكن العامل المحلي يبدو طاردا بدفع الباحثين إلى الهجرة والبحث عن مراكز دراسات وجامعات أخرى تكفل لهم واقعا مهنيا أفضل من ذاك الذي عايشوه في بلادهم في غفلة من اهتمام النخب؛ فلا هم حصلوا على رواتب جيدة، ولا هم حققوا منجزات علمية وبحثية تذكر، فضاعت السنوات من دون جدوى.
والحالة هذه، يمكننا أن نفهم لماذا تحظى جامعات إسرائيلية بحفاوة دولية وسمعة عالمية وتصنيفات متقدمة. إذ تأتي الجامعة العبرية في المركز الرابع والستين على مستوى العالم، في الوقت الذي لم يرد ذكر لأي من الجامعات العربية ضمن قائمة الخمسمائة جامعة الأولى في العالم. وفي التفاصيل، تستقطب إسرائيل أكثر من 114 ألف باحث وعالم ومهندس بارع في مجالات البحث العلمي وتصنيع التكنولوجيا المتقدمة لاسيما الإلكترونيات الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية. ولا غرابة هنا، فإسرائيل تنفق 4.7 % من الناتج المحلي على البحث العلمي، بينما تنفق الدول العربية مجتمعة أقل من 0.2 % من دخلها القومي على البحث والتكنولوجيا.
وتاريخيا، سجلت إسرائيل نحو 17 ألف براءة اختراع منذ تأسيس دولة الاحتلال، بينما لم يسجل العرب إلا 836 براءة اختراع في كل تاريخهم المعاصر، وفقا لبحث أعده الدكتور خالد سعيد من مركز أبحاث المعلوماتية في الجامعة العربية الأميركية.
وثمة ما يدعو للقلق أكثر. وكانت "الغد" نشرت قبل أشهر، ما توصل إليه الطبيبان والباحثان الأردنيان لؤي الزغول وليث العيطان في مجال البحث العلمي الخاص بالتوحد، غير أن بحثهما اصطدم بالحاجة إلى استخدام جهاز ضروري لإتمام البحث وفحص المعادن في أجسام المرضى بالتوحد، وكان موجودا فقط لدى جهة رسمية، طلبت من الباحثين 50 دينارا لقاء فحص كل عينة مفردة، الأمر الذي يعني عدم قدرتهما على الاستمرار في البحث. وفي المقابل، وجد الباحثان جامعة أسترالية تصغي لأفكارهما وجهدهما. وعلى ذلك نستطيع أن نقيس حجم الإحباطات التي تلحق بأساتذة وباحثين كثر، سرعان ما يحملون حقائب السفر بحثا عمن يحتضن أفكارهم ويقدر عقولهم.
(الغد 2015-10-31)