الغرب لن يفطم مدللته
بيد أن المضحك المبكي هو دعوة عريقات إلى “ضرورة مساءلة ومحاسبة الحكومة الإسرائيلية، والتي تستمر بتدمير خيار الدولتين من خلال الإملاءات والمستوطنات وفرض الحقائق على الأرض”…لا ندري ما إذا كان عريقات قد سأل نفسه من ذا الذي سيسأل أو يحاسب الكيان على تدمير خياره المسمى “حل الدولتين”؟! وما إذا كان يجهل أن من يطالبهم بمساءلته ومحاسبته هم من اختلقوه أصلًا بفرض الحقائق عنوةً على الأرض؟!
دفعني الدكتور صائب عريقات كبير مفاوضي الأوسلوستانيين الفلسطينيين الدائم لاستحضار مقولة قرأتها لوليم كوانت مساعد مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر، والذي له باعه في حوك اتفاقية “كامب ديفيد” سيئة السيرة، وصاحب كتاب “الدبلوماسية الأميركية والنزاع العربي الإسرائيلي منذ عام 1967″، ويعمل الآن كبيرًا للباحثين في معهد بروكنجز، وهي أن “التعامل مع إسرائيل بمثابة التنبؤ بربع قرن قادم أمامنا، أما التعامل مع العرب فهو تعامل مع سياسة اللحظة الراهنة… إسرائيل هي الحليف الوفي للولايات المتحدة”. استحضرت مقولة كوانت، التي تعبِّر عن تليد النظرة ذات البعد الاستراتيجي الأميركي للكيان الصهيوني، ناهيك عن عضوية العلاقة أساسًا، وأنا أقرأ تعقيبًا للدكتور عريقات على قرار تهويدي يقضي بمصادرة 2342 دونمًا من أراضي مدينة أريحا المحتلة، والتي من مكتبه فيها غالبًا ما يصدح كبير المفاوضين بتصريحاته السلمية المُحلِّقة. هذه المرة اعتبر عريقات أن القرار التهويدي هذا، والذي تم الإعلان عنه وبايدن لم يغادر فلسطين المحتلة بعد، وبعيد وصول المبعوث الفرنسي إليها، هو “رد رسمي من إسرائيل على الأفكار الفرنسية الهادفة لعقد مؤتمر دولي للسلام لتحقيق خيار الدولتين، وعلى طلب نائب الرئيس الأميركي جو بايدن بوقف الاستيطان ومصادرة الأراضي”!
كنت في مقالين سابقين تواليا قد تعرَّضت للزيارتين الأميركية والفرنسية والقرار التهويدي إياه، وهنا لن أزيد أكثر من توقُّف أمام كل هذا الغي الأوسلوستاني المستمر لما يقارب حتى الآن ربع القرن الأعجف الذي أعقب اتفاقية أوسلو الكارثية، والحافل بشائن العبث التنازلي الفادح بأعدل قضية عرفها عصرنا، وإدمان ذات المراهنة على ذات الأوهام التسووية، أو استجداء حلول تصفيتها من “المجتمع الدولي”، بمعنى تسوُّلها من الغرب المتصهين.
الدكتور عريقات يعلم أكثر من سواه أن بايدن لم يأتِ لفلسطين المحتلة لإيقاف التهويد، ولا هو، وهو القائل ذات يوم إن والده أوصاه “لكي تكون صهيونيًّا فليس عليك ألا تكون مسيحيًّا”، يضيره، أو يقاسم عريقات النظرة، إلى ما أُستقبل ووُدِّع به من حفاوة تهويدية، وإنما جاء للتوافق على مستوى الرفع الملياري لقيمة المساعدات العسكرية الأميركية للكيان الصهيوني للعقد القادم، والتعاون الاستراتيجي، الذي أشار إليه كوانت قبل عقود. التعاون بين حليفين كبيرهما ينظر لصغيرهما بأنه جزء عضوي منه، ويحرص عليه حرصه على أية ولاية أميركية. ويعلم ما لا يجهله جاهل وهو أن المبادرة الفرنسية من الهزال بحيث أُختصرت في مجرَّد عرضها للتسويق رغم أن نتنياهو قد رفضها قبل عرضها، وإن كليهما، الأميركي والفرنسي لم يتجشما عناء القدوم إلا حرصًا على أمن الكيان الذي هزته انتفاضة الفدائيين، ومحاولةً منهما للحؤول دون انهيار السلطة لإبقاء دورها في محاصرة الانتفاضة وحماية أمن الاحتلال.
بيد أن المضحك المبكي هو دعوة عريقات إلى “ضرورة مساءلة ومحاسبة الحكومة الإسرائيلية، والتي تستمر بتدمير خيار الدولتين من خلال الإملاءات والمستوطنات وفرض الحقائق على الأرض”…لا ندري ما إذا كان عريقات قد سأل نفسه من ذا الذي سيسأل أو يحاسب الكيان على تدمير خياره المسمى “حل الدولتين”؟! وما إذا كان يجهل أن من يطالبهم بمساءلته ومحاسبته هم من اختلقوه أصلًا بفرض الحقائق عنوةً على الأرض؟! بمعنى لم يك من فرق ما بين مستعمرات ما قبل 1967 وما بعدها، وأن ما فرض قبلها أو بعدها هو برعاية وحماية ودعم غربي، بدأ بريطانيًّا ولم يقتصر على الفرنسي أو ينته بالأميركي، بل هو شمل حتى اليوناني، ولنضرب من الأمثلة طازجها، ولنأخذها كلها فيما هو متعلق باثنتين فحسب: الاعتراف بـ”دولة فلسطين”، وتعاظم دعوات مقاطعة بضائع مستعمرات الضفة شعبيًّا في أوروبا.
بالنسبة للأولى، أي الاعتراف، لقد سمع عريقات مثل سواه أن الفرنسي بيير فيمو لم يأتِ إلى الكيان الغاصب في فلسطين لعرض بضاعته المرفوضة سلفًا إلا بعد أن أوضحت فرنسا بأنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية قبل التوصل إلى حل ناجم عن تفاوض عزَّ ويعتبره عريقات “حياة” ويعلم أن دونه خرط القتاد النتنياهوي، وكذا الأمر بالنسبة للأسبان وما شابه، أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فالوقت “غير مناسب لقيام الدولة الفلسطينية” أصلًا.
بالنسبة للثانية، أي المقاطعة الشعبية، فعلى أهميتها على المدى البعيد، تظل المحدودة والهامشية التأثير في ظل محاصرة رسمية لدول هي صانعة الكيان الصهيوني وداعمته والمتكفِّلة باستمراريته باعتباره من امتداداتها. ولنأخذ مثلين لا أكثر: بريطانيا، التي ذكَّرتنا بوعد بلفور عندما استنت قانونًا يجرِّم من يرفض التعامل مع المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية لمحاصرة توسُّع دعوات المقاطعة مؤخرًا فيها. واليونان، ويونان تسيبراس ما غيره، أو حيث يطمح اليونانيون لدور “الوسيط النزيه” باعتبارهم “شركاء لإسرائيل… وأصدقاء للعرب”… شركاء للصهاينة في الغاز واستثمارات التنقيب عنه واقتسام مكامنه وتسهيل منافذ تصديره، ومكثَّف المناورات العسكرية، وفتح المجالات الجوية اليونانية لكي يتدرب طياروهم وطائراتهم الحربية… وأصدقاء للعرب فقط لوجه الله تعالى… عطلت اليونان اعتماد وثيقة للاتحاد الأوروبي بشأن التأشير على بضائع المستعمرات الصهيونية وليس منعها، رغم أنها كانت قد شاركت في صياغتها، بدعوى أنها “قاسية”، ولتعطيلها صوَّت معها فقط كل من قبرص ورومانيا والمجر. وكانت قد أجَّلت الاعتراف بـ”دولة فلسطين” إلى أن يأتي الوقت المناسب مراعاةً منها لـ”العلاقات الأخوية مع الشعب العربي وعلاقة التعاون مع إسرائيل”… كفى وهمًا، الغرب لن يفطم مدللته ولن يخذل إسرائيله، حتى وإن باتت عبئًا عليه!
(المصدر: الوطن العمانية 2016-03-26)