لماذا تركتم البرتقال يتيماً ؟!
للأماكن روح ورائحة، عيون وآذان، نقيم فيها فنصبح جزءاً منها، وحين نرحل نترك بعضاً منا .ننام فيها فتحضننا، نجلس فتفتح ذراعيها، نخربش على حيطانها فتبتسم ونعلّق عليها صور من أقام فيها فتحزن وتسأل: لماذا تركونا؟ قلت لصاحبي: أحس أحياناً أنني منافق. فأنا أحب نابلس لأني ولدت فيها وغادرتها طفلا ، والزرقاء لأني فتحت عيوني فيها فربّتني طفلا، علمتني كيف أحب السيل والحاووز وعصارى الكزدرة في شارع السعادة، تذوقت فيها طعم الفلافل من «هل أكلت منها يا عبدالله» الذي كلما التقيت الأخ حسين العموش يذكّرني بالمطعم الصغير الذي كان يحمل الاسم الذي ذكرته في إحدى مقالاتي عن الزرقاء ففوجئت أن حسيناً كان ايضا يأكل منه و..نطلق ضحكة حنين لتلك الأيام وتلك المدينة التي وحدتنا أبناء عسكريين وأبناء لاجئين وأبناء فلاحين، كنا كلنا أبناؤها وكانت أمنا. من الزرقاء الى الشام ، نحمل شهادة التوجيهي لندرس في جامعتها، ولنكمل ما ربتنا عليه أمنا الزرقاء.أن تنتقل من مدرسة شبيب الى جامعة دمشق أمر ليس سهلاً، وأن تجلس في أماكن جلس فيها قادة وساسة وأدباء وشعراء، وتسكن حارات ساروجة والميدان وأحياء الشعلان والسبكي وووو فإنك تشعر بأن الأفق أوسع والحياة أجمل، كيف لا وأنت ترى بيت نزار قباني الذي كنت تحفظ شعره عن قلب قلب وهو من جعل المرأة في خيالك أجمل الكائنات، كيف وأنت تستمع في مدرج الجامعة الى مظفر النواب وهو يلقي لأول مرة بصوته ويديه وعينيه قصيدته الشهيرة «القدس عروس عروبتكم « .في الشام تعلّمنا كيف تكون الحياة ياسمينة ليلا وفي النهار زحمة وعملا وسوزوكي بصوته الاجش ورائحة المازوت تملأ الشوارع دون أن تزعجك ، فقد تعودت عليها وصار المكان جزءاً منك . أحببت الشام وبعد التخرج أحببت الكويت .تعلمت فيه الصحافة وعلّمتها وعشت فيها خمسة عشر عاما وكتبت فيها وعنها الكثير وحرصت في زيارتي الاخيرة أن أتغدى في «فريج صويلح»المطعم التراثي لكويت الاربعينات الذي كان جزءا منه باقيا عندما رحلت إليها بلا أبراج وبنايات وسيارات «كشخة».أرض خير وبحر مفتوح على الخليج العربي لا الفارسي .فهناك صُقلت عروبتك وتجذرت عروقك في أرض العرب. الشارقة كانت المحطة التالية .عشت فيها ست سنوات مع زملاء من مصر وسوريا وتونس والمغرب والسودان ولبنان وحتى من موريتانيا . بداية خروجك من المطار كنت تجد لافتة مكتوبة بالزهور «ابتسم أنت في الشارقة» . بقيت طيلة تلك السنوات مبتسماً.غادرتها تاركاً ذكرى جميلة و..بعضي. المحطة الحنونة كانت البحرين.حنونة في صحراء ونخلة تشرب من البحر .منامة ليست للنوم فقط وقرى متناثرة تضيء حياة .المحرّق من اقدم جزر البحرين .جزيرة الصيد واللؤلؤ والشعر والثقافة والصحافة .هناك بيت جد خولة مطر ووالد قاسم حداد و عبدالله الزايد والشيخ ابراهيم آل خليفة .معظمها حولتها الشيخة مي المثقفة النشيطة الى متاحف تراثية ثقافية . هل أنا منافق حين أقول إنني أحببت كل تلك الأمكنة ؟ وماذا أقول عني حين أقول إنني أعشق عمّان حد الذوبان فيها؟ فهي نقطة الارتكاز التي سندتني كلما طالت بي المحطات.وهي التي من بياض ثلجها وخضرة جبالها رسمتني ،سكنتني وأسكنتني في القلب منها..قريبا من يافا .آه يا يافا التي لم أرها لكني أعرفها، اعرفها جيداً،وخاصة هذه الأيام التي يبكي برتقالها رحيل أبنائها في الذكرى 68 للنكبة !! لو كان أبي حياً، لأمضيت اليوم معه ، أكرر عليه السؤال:لماذا هاجرتم من بلدتكم، تلك التي ولدتم في حضنها أنت وأبوك وجدك وجد جدك ؟ لماذا تركتم البرتقال يتيماً؟؟ إنه السؤال اللغز الذي له ألف جواب ولا جواب له !!
(الدستور 2016-05-11)