اليمن المُطارِد واليسار المذعور.. البرازيل مثالاً (2-2)
هل يكفي فقط ان تقول ديلما روسيف, الرئيسة البرازيلية الموقوفة «مؤقتاً» عن عملها: صحيح انني ارتكبت بعض الاخطاء, لكنني لم أخرق قانون البلاد ابداً. كي تُقنِع انصارها «والمحايدين» بانها ضحية مؤامرة دبرها خصومها في الداخل والخارج, لإقصائها عن وظيفتها التي جاءت بها الى الحكم, عبر اغلبية شعبية وازنة وديمقراطية؟
وهل يكفي ان تؤكد ويكيليكس ,ما كان شائعاً ومعروفاً من قبل, وهي ان نائب الرئيسة مايكل تامر ,المؤتلِف حزبه اللبرالي معها في الحكومة، هو «مُخْبِر» اميركي كان يتواصل لخدمة المخابرات الاميركية على الدوام ناقلاً اسرار البلاد ومتلقياً المعلومات الكفيلة بابقاء التوتر والقلق سائداً في الاوساط البرازيلية ورافعة لمنسوب الغضب والتمرد على قرارات ومقاربات حكومة روسيف الاقتصادية والاجتماعية, كي يبدو ان سيناريو اطاحتها (برلمانياً وقضائياً) هو ترتيب خارجي بأدوات داخلية؟
بالتأكيد ليس ثمة في ما يُبرِّر – سوى الجانب الاخلاقي منه الذي لا يهم قوى اليمين الرجعي وذلك الرأسمالي المُتوحِّش – مُسارعة قوى الثورة المضادة، من مواصلة مساعيها او وقف مطاردتها لليسار الذي اقتحم «عرينها» وعرّض مصالح شركاتها عابرة القارات والجنسيات وعلى رأسها شركات «الفواكه».. ما غيرها,او الاخوات السبع النفطية الطامعة بشره لنفط اميركا اللاتينية وثرواتها، ما يعني انه سيكون صعباً عليها في الظروف الدولية الراهنة، ان تُحرِّك الدمى العسكرية المؤيدة لها في جيوش اميركا اللاتينية ,كما كانت تفعل «بنجاح» في القرن الماضي، ناهيك عن الاحتمالات الواردة لعدم نجاح تلك الانقلابات, بعد ان أوجد اليسار اللاتيني مؤيدين كثر داخل معسكرات تلك الجيوش، على النحو الذي لاحظنا نموذجه الصارخ في فشل الانقلاب العسكري على الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو شافيز اواخر تسعينات القرن الماضي وعودته المظفرة الى الحكم, بل وتكريس ما يمكن وصفه «بالشافيزية» التي كان مقدراً لها ان تتجذر وتتواصل، لولا الموت المبكر الذي خطفه ليخلفه نائبه مادورو الذي يفتقد كاريزمية وربما شجاعة ونقاء وثقافة... مُعلِّمِه؟
هل قلنا مادورو؟
نعم، فمتاعب الرئيس الفنزويلي بدأت مُبكراً وقبل ان تبدأ متاعب حزب العمال الحاكم في البرازيل، الذي افتقد هو الاخر – ولكن ليس عبر الموت – زعيمه الشعبي «لولا» بعد انتهاء «ولايتيه»، ما مكّْن تلميذته من خلافته, ولكن في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة, ادّت ضمن امور اخرى، الى ازمة في الانظمة التي يحكمها اليسار، لم تستند الى مؤامرات اليمين ( المعلنة و المتواصلة..على اي حال), بل بدأت ( الانظمة) تفقد قاعدتها الشعبية, التي بدأت تخسر مكاسبها التي «تعودت» عليها وبالتالي باتت ناقمة على سياسات التقشف التي اتبعتّها تلك الانظمة وارتفاع اسعار السلع الاساسية وتآكل الاجور وزيادة نسب البطالة والفقر, وذلك نتيجة الانخفاض المتلاحق لاسعار النفط, بما هو المورد الرئيسي لموازنات تلك الدول, التي بدأت تعاني عجزاً وتضخماً, انعكس في الدرجة الاولى على جمهور تلك الانظمة, ما ادى الى خروجه للشارع احتجاجاً ورفضاً لتلك السياسات التي لم يعد أمام مخططيها «اليساريين» سوى اتخاذ المزيد من القرارات لشد الاحزمة مع البطون الخاوية والسواعد التي لا تجد عملاً ,وهي رصيد تلك الانظمة وخزانها «الإنتخابي».
بدأت مرحلة خسارة اليسار اللاتيني تتسارع, فلم ينجح اليسار في الوصول الى الحكم في كولومبيا وعاد اليمين بقوة الى الارجنتين بعد هزيمة مرشح الرئيسة كريستينا كيرنشر, رغم شعبيتها الواسعة (وهي التي خلفت زوجها لثماني سنوات متواصلة) فكانت مؤشرا على خفوت بريق اليسار وتراجع جاذبيته, وكانت فنزويلا مادورو قد انخرطت في لُجّة الصراع والاحتجاجات وارتفاع رؤوس وصخب اليمين, المُرتبِط عضوياً بالولايات المتحدة, وإن بقيت المواجهات في اطار قواعد اللعبة الديمقراطية التي لا يُبدي اليمين احترامه له, متى شعر بشيء من القوة أو استعاد الثقة بنفسه. فراحت قوى اليمين تتحدث عن عزل الرئيس عبر استفتاء تُجريه, وجمعت نحواً من مليوني «توقيع», وهو العدد اللازم لطرح الاستفتاء (في شأن بقاء الرئيس او عزله) ولم تتبدد المخاطر, رغم اعلان الرئيس مادورو حال الطوارئ واجراء مناورات عسكرية ومصادرة المصانع المُتوقِفة عن الانتاج وسجن اصحابها, لكنها (قوى اليمين) في البرازيل.. نجحت, وخرجت الرئيسة ديلما روسيف من القصر الجمهوري لمدة ستة اشهر قد تنتهي بمحاكمتها.
ليس ثمة بد من الاعتراف, بأن اليسار اللاتيني بِمُجمَلِه, قد ارتكب اخطاء فادحة, ادت الى خروجه من الحكم او العيش في حال عدم استقرار , كما رأينا في بوليفيا عندما خسر الرئيس اليساري الشعبي والمتواضع والمحترم ايفو موراليس الاستفتاء الشعبي الذي لجأ اليه لتعديل الدستور بهدف «تمكينه» من الترشح لفترة رئاسية (جديدة) بعد عشر سنوات في الحكم. ...ليست ديلما روسيف بمكانة أو شعبية سلفها لويس ايناسيو لولا دا سيلفا, وليس نيكولا مادورو بأهمية وكاريزمية هوغو شافير.
لكن المسألة الاساس تكمن في أن برامج اليسار الاجتماعية والاقتصادية لم تُوضَع بعناية أو تبصّر وفق رؤية استراتيجية تلحظ اثار العولمة المتوحشة وتغوّل الرأسمالية بنسختها النيوليبرالية الأكثر توحشاً, فضلاً عن عدم اقتناع جمهورها الذي اخلص لها, بتفسيراتها غير المُقنِعة, لتدهور الاقتصاد وتراجع اوضاعِه المعيشية, ما اصابه بالذعر وجعل اليمين الرجعي الُمرتبط عضوياً بمراكز الرأسمالية, مواصلة مطارداته لليسار وإخراجه من الحُكم, أو... زيادة مصاعبه وإخفاقاته.
(الرأي 2016-05-17)