رياح «البلقنة» إذ تهب على المشـرق من واشنطن ثانية!
في أول اعتراف أمريكي رسمي، رفيع المستوى، يصرح جون برينان مدير وكالة “السي آي إيه”، بأن سوريا التي عرفنا قبل خمس سنوات، قد لا تظل على حالها، وقد لا تتمكن من استعادة وحدتها ... ليست المرة الأولى التي تصدر فيها نبوءات متشائمة بشأن سوريا من هذا النوع، بيد أنها المرة الأولى، التي تصدر عن مسؤول أمريكي رفيع، وهو على رأس عمله، وبهذا القدر من الوضوح المستفز. هل هو “تقدير موقف” أو قراءة في سيناريوهات المرحلة المقبلة لسوريا، أم هو قرار أمريكي متخذ، وينتظر التنفيذ؟ ... هل هي رغبة أمريكية، تشف عن مصلحة عميقة، مضمرة، لا تبوح بها واشنطن في اجتماعات “أصدقاء سوريا” ولقاءات كيري – لافروف، وإطلالات كيري المشتركة، ثقيلة الظل، مع الموفد الدولي ستيفان ديمستورا؟ هل عنى رجل الاستخبارات الأول في الولايات المتحدة بتصريحاته تلك، “الفيدرالية السورية” التي انتعش الحديث بشأنها على وقع التقدم الميداني الكبير الذي حققتها قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الحماية الكردية، ومسارعة أكراد سوريا للكشف عن إدارتهم الذاتية، والبوح بمستقبلهم “الفيدرالي” من جانب واحد، ومن دون التشاور مع الأشقاء في الوطن والديار و”المناطق المتنازع عليها”؟ إذا كان الأمر كذلك، فما مغزى قوله، بأنه لا يستبعد أن “تستقل كيانات إيديولوجية” بمناطق معينة من سوريا، وتستقر فيها، واستتباعاً تقيم عليها ممالكها وإماراتها و”خلافتها” إلى غير ما في قواميس التراث من مصطلحات وتعابير، تُحيل إلى الدولة، ولا تقترب من مضامينها الحديثة والعصرية؟ ما صلة هذه النبوءة المتشائمة بحرب الولايات المتحدة على الإرهاب؟ ... هل ستسمح واشنطن لمثل هذه الكيانات الإيديولوجية بـ “الاستقلال” بمناطق وأمصار وأصقاع، تقيم عليها إماراتها؟ ... هل هذا الخيار ممكن من زاوية النظر الأمريكية؟ ... هل يشمل ذلك، مناطق سيطرة “داعش”، أم أنه يخص مناطق سيطرة “النصرة” التي صار اسمها “جيش فتح الشام” في إدلب وبعض اكناف حلب والجبهة الجنوبية؟ ... أم أنه يقتصر على منظمات سلفية أخرى، من طراز أحرار الشام وجماعة زنكي والجبهة الشامية والحزب الإسلامي التركمانستاني وعشرات المنظمات الشبيهة، ممن تصنف “معتدلة” في القاموس السياسي/ الأمني الأمريكي؟ لو ظل حديث جون برينان عن “سيناريو التقسيم” مبهماً، لقلنا أنه قصد “الفيدرالية” وعنى أكراد سوريا على نحو خاص، وهنا قد يحتاج الأمر إلى وقفة تأمل وتدقيق ... فالروس وعلى لسان ميخائيل بوغدانوف، سبق وأن أطلقوا بالون اختبار مماثل، قبل أن يتراجعوا عنه تحت ضغط الانتقادات الصاخبة من النظام والمعارضة السوريين على حد سوءا ...وبعض اطراف المعارضة، سبق وأن وحذرت من مغبة تقسيم سوريا بإعلان دويلة على أراضي “سوريا المفيدة” ... والنظام سبق وان حذر من مخطط لتقسيم سوريا، تدفع به أطراف إقليمية ودولية داعمة وراعية لبعض اطراف المعارضة ... لكن أن يتحدث برينان عن “استقلال حركات ذات إيديولوجيات” معينة بمناطق سوريا تتولى حكمها والسيطرة عليها وإدارتها، فمعنى ذلك أنه يشير إلى إمكانية العيش والتعايش مع إمارات سلفية جهادية، بصرف النظر عن الاسم والمسمى الذي ستظهر به أو تتقدم تحت يافطته، بطلب الدعم والاسناد والاعتراف. هل تحتمل الاستراتيجية الأمريكية في سوريا قيام إمارات “إسلامية” إيديولوجياً، تجعل من سوريا المستقبل أمراً لا يشبه من قريب أو بعيد، سوريا التي عرفنا قبل أزمة السنوات الخمس الماضية... هل لواشنطن استراتيجية يعبر عنها برينان، أم أنه، مثله مثل المرشحة الأكثر حظاً بالفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية هيلاري كلينتون، التي كشفت الوثائق أنها فعلت ما فعلت في سوريا، وخططت ودبرت ما خططت له واقترحت القيام به، خدمة لمصالح إسرائيل وذوداً عن أمنها واستقرارها، هكذا بالحرف الواحد، وبكل صفاقة؟ هل هي استراتيجية خاصة بسوريا، تبدأ بها وتتوقف عندها، أم أننا أمام محاولة من برينان لإعادة انتاج خطاب جو بايدن العراقي، حين تجشم نائب الرئيس الأمريكي عناء المبادرة والبوح بأن حل الأزمة العراقية، لن يتأتى إلا بتقسيم العراق وفقاً لخطوط المذاهب والطوائف والأقوام المتصارعة على أرضه؟ هل هي رياح “البلقنة” تهب على المشرق، بل والشرق الأوسط برمتها، من واشنطن، موجة تلو أخرى، تارة يحركها نائب الرئيس وثانية تتولى “توجيهها” وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة للرئاسة حاليا، وثالثة، يتولى “التبشير” بها، مدير المخابرات المركزية الأمريكية جون برينان؟ ... ودائماً لخدمة مصالح إسرائيل وأمنها وتفوقها و”يهوديتها”؟ ثم، ما هي مواقف مختلف اللاعبين من “قراءة برينان المتشائمة” لمستقبل سوريا؟ ... ماذا عن مواقف الأنظمة والحكومات العربية، وبالأخص حملة رايات “العروبة” بصورتها القومية القديمة، وصورتها الجديدة التي يبشر بها قارعو طبول الحرب على إيران ومحورها وهلالها؟ ... ماذا عن مواقف المعارضات السورية، التي كلما تقدم الزمن بالأزمة السورية، ازدادت تهميشاً وضآلة، وتكشف رموزها عن دمى في مسرح لا يطرب ولا يسلي أحداً؟ ... ماذا عن إيران وتركيا، الدولتان المرشحتان لأن تكونا الهدف التالي لـ “دومينو” التفتيت الطوائفي والمذهبي والأقوامي، هل تشكل تصريحات برينان، حافزاً لتعديل بوصلة السياسة الخارجية لكلا البلدين وتغيير وجهتها؟ ... أسئلة وتساؤلات نقف عاجزين أمام محاولة الإجابة عليها، من خارج مألوف الكلام ودارجه، الذي لا يجلب منفعة ولا يدرأ ضرا.
(الدستور 2016-08-01)