عن الدين والدولة المدنية
بالرغم من انتهاء الحملات الانتخابية والنقاشات التي أثيرت فيها، فإنّ هنالك قضايا جوهرية وأساسية من الضروري أن تحظى باهتمام أطول وأعمق في نقاشات وحوارات النخب السياسية، وليس فقط في مرحلة الانتخابات.
من ضمن هذه القضايا - التي تمسّ ثقافتنا وحياتنا اليومية وأنظمتنا- الجدل عن الدولة المدنية والدين، الذي أثير بين بعض الإسلاميين والليبراليين والقوميين مؤخراً، وكتب أمس الدكتور مروان المعشّر مقالاً مهماً (في الغد) يوضّح أفكاره عن الموضوع، وأتفق معه تماماً 100 % في كل ما قاله، وذلك في مواجهة طرفين رئيسين؛ الأول العلماني المتطرف، الذي يريد حرف وجهة النضال من العمل لتحقيق الديمقراطية إلى مواجهة مفتوحة مع أطياف الإسلام السياسي كافّة، والثاني الإسلاميون الذين يردّون مصطلح الدولة المدنية، بدعوى إقامة دولة "إسلامية"، وكأنّ الإسلام يتناقض مع المدنية!
ضمن هذا السياق يرى المعشّر أنّ الإسلام لا يتناقض مع الدولة المدنية، وثانياً أنّ الطرف المضاد للدولة المدنية هي السلطة الدكتاتورية، وليس الدين، وثالثاً ضرورة الاقتران بين الدولة المدنية والديمقراطية، وهي ثلاثة مبادئ مهمة وأساسية، برأيي، في ترشيد النقاش الحالي.
لكن قبل الخوض في نقاشات فكرية وسياسية من قبل الجميع أظن أنه من الضروري تعريف المصطلحات وتحديدها، ما المقصود بالدولة المدنية والدولة الدينية وما هي الديمقراطية؟ لأنّ كثيراً منا يبني أحكاماً وأفكاراً ويخلص إلى نتائج من دون أن يدقق في المفاهيم وتعريفها بصورة جليّة، فهذه المصطلحات تحديداً ضبابية ورمادية ولها مئات التعريفات، سواء تحدثنا عن العلمانية أو الدولة الدينية أو الديمقراطية حتى، أما الدولة المدنية، تحديداً، فلا يوجد تعريف دقيق علمي لها من قبل الدارسين والمفكّرين.
لو أخذنا مثلاً أحد أبرز المفكّرين الأردنيين والمتخصصين في الفلسفة على مستوى العالم العربي والإسلامي، د. فهمي جدعان، وهو ليس إسلاميا كما تعرفون، وله موقف نقدي منهجي من الإسلاميين، فقد كتب أحد أبرز المؤلفات في هذا المجال "في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، وفكك فيه المقولات السياسية للعلمانيين والليبراليين والإسلاميين، وقدّم خلاصة على غاية من الأهمية في إمكانية بل ضرورة إنتاج المركّب الإسلامي العلماني الليبرالي.
وسيكون متوافراً باللغة العربية قريباً جداً، خلال معرض عمان القادم للكتاب، كتاب آخر مترجم للباحث نادر هاشمي، بعنوان "الإسلام، العلمانية والليبرالية الديمقراطية: نحو نظرية ديمقراطية للعالم الإسلامي" (ترجمه للشبكة العربية للنشر الصديق الألمعي أسامة غاوجي، وتشرفت بتقديمي للنسخة العربية).
في كتابه يناقش هاشمي أزمة العلمانية في العالم العربي، ويقرّ بأنّ العلمانية بمثابة شرط للديمقراطية، لكن مشكلة "العلمانية العربية" أنّها اكتسبت سمعة سيئة ودخلت في صدام مع التيار الإسلامي عموماً، بدلاً من أن تحوّل تطوير السياسات الدينية نحو الإصلاح الديني، كما حدث في أوربا، حتى تصل إلى نقطة يصبح فيها القبول بالعلمانية (أو المدنية بالحدّ الأدنى) والديمقراطية نابعاً من قناعات الناس الدينية ورؤيتهم لمصالحهم السياسية والاقتصادية.
المهم في هذا الكتاب أنّ المؤلف يبني "نظريته" على المقارنة بالتاريخ الأوروبي وولادة العلمانية والديمقراطية هناك، بصورة دقيقة وعلمية وموضوعية، تبعدنا عن الأفكار الارتجالية والسجالات الأيديولوجية المعلّبة المفرغة من المحتوى المعرفي الدقيق.
الإسلاميون ليسوا جميعاً ضد الدولة المدنية، فمن يتابع الخطاب التونسي والمغربي الإسلامي يجد أنّ هنالك تقدماً كبيراً في هذا المجال، وكذلك الحال لدى بعض إسلاميي الأردن ومصر، ويمكن هنا العودة إلى كتاب "إسلام بلا خوف" لوليام بيكر، كأحد المراجع المهمة في النقاش حول وجود خطاب إسلامي يمكن تطويره باتجاه القبول بالديمقراطية والمدنية والتصالح مع العصر.
(المصدر: الغد 2016-09-22 )