فتوى بني ارشيد!
الفتوى المهمة التي أصدرها زكي بني ارشيد (في تصريحاته لموقع "سي. إن. إن بالعربية"، ثم في مقال مطوّل على موقع "الجزيرة نت")، بأنّ الدولة المدنية لا تتناقض مع الإسلام، بل هي نقيض الدولة البوليسية الاستبدادية، مثّلت "نقطة تحول" مهمة في النقاشات الجارية عن العلمانية والإسلام والليبرالية، وحالة الاستقطاب الاجتماعي الداخلية غير المسبوقة.
"فتوى الدولة المدنية" مهمة على أكثر من صعيد؛ أولاً، النقاش داخل الحركة الإسلامية. إذ كان هناك موقف مقلق للرأي العام والمثقفين، قبل ذلك، صدر عن الحركة الإسلامية وحلفائها ضد الدولة المدنية، وكاد هذا الموقف يحتل مساحة السجال الداخلي كاملةً. لكن استدراك بني ارشيد قلب الطاولة تماماً، لما يمتلكه من قوة نافذة في أوساط الحركة الإسلامية أولاً، وثانياً لأنّ ذلك ارتبط بوضوح بعودة الإسلاميين إلى اللعبة الانتخابية، وإنشاء تحالف التيار الوطني للإصلاح، الذي حظي بـ15 مقعداً نيابياً.
لمن الغلبة داخل الحركة الإسلامية؟!
هذا سؤال النخب السياسية والمثقفين؛ فيما إذا كان موقف بني ارشيد سيسود في أوساط الحركة أم موقف الطرف الآخر، بخاصة أنّ مقال بني ارشيد جاء في سياق مضاد تماماً لمقال سبقه بأيام للمراقب العام السابق للإخوان المسلمين، د. همام سعيد، الذي أعلن فيه أنّ الدولة المدنية مرفوضة شرعاً؟
موقف بني ارشيد أقوى داخل الحركة، ويحظى بحضور كبير في أوساط الشباب والقيادات. ويمثّل الرجل اليوم "المهندس" الحقيقي للتوجه الجديد، مع مجموعة من قيادات تنظيمية أخرى، قاموا بإجراء مراجعة داخلية لمسار الحركة وتعثّراتها ووصلوا إلى "المخرجات الحالية".
مع ذلك، يعترف بني ارشيد بأنّ هناك جهوداً جبّارة مطلوبة في داخل الحركة الإسلامية لنقل هذه القناعات الجديدة بصورة عميقة إلى القواعد، مع ترسيخ وتجذير فكرة التحالف الوطني، التي يشعر أنّها يمكن أن تكون مفتاحاً ذهبياً لإعادة تعريف دور حزب جبهة العمل الإسلامي في المشهد الأردني.
وتعزيزاً وترسيخاً للتوجه الجديد، خصص بني ارشيد جزءاً كبيراً من مقاله (في "الجزيرة نت") لمناقشة الآراء المتعددة عن الدولة المدنية في داخل "البيت الفكري الإسلامي". وكان ملاحظاً أنّه اقترب من تأصيل التجربة المغاربية وما كتبه د. سعدالدين العثماني في هذا المجال، والذي يمثّل أحد أبرز المفكرين الإسلاميين، وقياديي حزب العدالة والتنمية المغربي المهتمين بتأصيل المفاهيم المدنية والديمقراطية في الفكر الإسلامي.
بالنتيجة، المواقف الأخيرة للإسلاميين، مع مقال بني ارشيد، تشي بأنّهم يتحرّكون فكرياً وسياسياً لتجاوز المرحلة السابقة باتجاه خطّ سير جديد متأثر بالتجربة المغربية والتونسية، والخروج من الآثار النفسية والفكرية لتجربة الإخوان المسلمين في مصر، بعد الانقلاب. وعنوان المرحلة "البراغماتية السياسية". وهي خطوات معقّدة، لم تكن بسيطة، على حركة أمضت السنوات الأخيرة في مواجهة مع النظام أولاً، وفي أزمة داخلية وصراعات فكرية وشخصية ثانياً. لكن -للأمانة- فإنّها خطوات جريئة وذكية، عبر من خلالها الإسلاميون منعطفاً حادّاً وخرجوا من عنق الزجاجة ونزلوا عن الشجرة!
الآن، الكل ينتظر ويترقب سلوك الإسلاميين في المرحلة المقبلة؛ سواء في أروقة الحكم والقرار، أو حتى القوى السياسية الأخرى، وفي مقدمتها التيار الليبرالي ومجموعة الدولة المدنية، بخاصة أنّ هناك قلقاً من تنامي الاستقطاب الاجتماعي والثقافي في البلاد، على خلفية الأحداث الأخيرة.
وفي مقابل بني ارشيد، قدّم الدكتور مروان المعشّر مقاربة مهمة في محاضرته (مع د. عمر الرزاز) على هامش معرض الكتاب، عندما أكّد هو الآخر أنّ الدولة المدنية ليست ضد الدين، بل في مواجهة الاستبداد.
هذه المحاولات لتبريد الجبهات الساخنة من السجال العام، بحاجة إلى الدخول أعمق إلى التفاصيل والحيثيات، لإعادة صوغ "عقد مجتمعي (أي بين القوى السياسية) جديد".
(الغد 2016-10-11)