من هو الانتحاري؟!
تحفل مواقع قريبة من تنظيم "داعش" بصور لعدد كبير من الانتحاريين الذين قُتلوا حتى الآن في معركة الموصل. فيما تشير تلك المواقع إلى وجود قوائم بقرابة 900 شخص سجّلوا أسماءهم كـ"انغماسيين" (انتحاريين) للمواجهة المقبلة.
في الأثناء، قدّم البغدادي خطاباً أمس (بعد غياب طويل)، يحثّ فيه جنود "الدولة" على القتال المستميت في الموصل، وأنصارها إلى الاستمرار في العمليات ضد "خصوم التنظيم". وهذا وذاك يدحض الفرضية-السيناريو، التي راجت خلال الفترة الماضية بأنّ أعضاء التنظيم سيتبخّرون وينسحبون من الموصل بلا قتال، كما حدث في أمثلة سابقة.
على الأغلب، ستقاتل نسبة كبيرة من أبناء التنظيم قتالاً عنيفاً ومستميتاً، ولن يتخلّى التنظيم عن الموصل بسهولة. وهناك سلاح الانتحاريين والمفخخات الذي يعدّه لمعارك الشوارع في ضواحي المدينة وأحيائها.
خلال متابعتي صور الانتحاريين، ونسبة كبيرة منهم من الشباب العراقيين والعرب، أقوم بقراءة كتاب يتحدث عن هذه الظاهرة بصورة عميقة، للمؤلف فرهاد خسرو خافار بعنوان "شهداء الله الجدد في سوسيولوجيا العمليات الانتحارية"، والذي يتناول مفهوم "الشهادة" في الفكر الإسلامي، وتطوّر هذا المفهوم في الفكر الإسلامي المعاصر، عبر تحميله معانيَ ودلالات جديدة، من خلال إضافات ثورية لكل من علي شريعتي وسيد قطب وآخرين، وصولاً إلى دراسة الظاهرة في بعدها الاجتماعي-الثقافي المعاصر.
الكتاب يتناول ظاهرة الانتحاريين أو من يطلق عليهم "الشهداء"، عبر ثلاثة فصول رئيسة. الفصل الأول يخصصه المؤلف للحالة الإيرانية، وتطوّر المفهوم منذ الثورة الخمينية هناك، وقوات "البسيج" كنموذج واضح على هذا التوجه. ثم الحالة اللبنانية، والفلسطينية المتمثلة بحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" (يطلق عليها الجماعة القومية المستحيلة). وأخيراً الفصل الثالث، وهو من أكثر فصول الكتاب أهمية "الأمة الجديدة" العابرة للقوميات؛ شهيد "القاعدة"، عبر دراسة حالات الشباب الإسلامي المتطرف الذين قاموا بتفجيرات في أوروبا سابقاً في انجلترا وفرنسا.
قيمة الكتاب المهمة أنّه ينتقل من الجانب الأيديولوجي النظري والمستوى الخطابي لدى هذه المجموعات، إلى الدراسة السيسيولوجية والسيكولوجية للظاهرة، عبر محاولة تقديم مقاربة للخلفيات الاجتماعية والدوافع النفسية لمن ينتظمون في هذا الخط الراديكالي الأصولي، وينتهي بهم الأمر إلى العمل الانتحاري.
في الكتاب كمّ كبير من الأفكار والتحليلات المفيدة المهمة، لكن "الثيمة" الرئيسة -في نظري- تتمثل في أهمية البعد الاجتماعي، أي عدم النظر إلى الظاهرة في إطارٍ مجرّد، وكأنّها انعكاس لـ"نص ديني" أو خطاب وعظي، فهي في "البسيج" بمثابة رد فعل على فشل الثورة الإيرانية، وتحطّم الأحلام اليوتوبية التي بنيت عليها، ولها ارتباطات بالحالة المجتمعية والاقتصادية، بخاصة لأبناء الأطراف والهوامش في المدن، وجزء من ديناميكيات الصراع الداخلي بين تيارات الحكم.
أمّا في أوروبا، فهي نتاج صراع الهويات وأزمة الاندماج وتيه الأجيال الجديدة بين الثقافات الاجتماعية، سواء من المجتمعات الطاردة (العربية) أو المستقبلة (الأوروبية)، وعدم القدرة على التكيف الهوياتي مع المجتمعات الجديدة، ما يدفع هؤلاء الشباب إلى البحث عن "مجتمع جديد" غير موجود في النماذج المطروحة، عربياً وغربياً. إنّه مجتمع أوجدوه، أولاً، في العالم الافتراضي، نتيجة اتصالهم الوثيق بالحداثة والعولمة، ثم حاولوا نقله إلى عالم الواقع عبر أمّة ومجتمعات وهويات متخيّلة جديدة!
الكتاب مهم في استكشاف عمق الظاهرة الجهادية والخروج من الصور النمطية السطحية الاختزالية عن هؤلاء الشباب، فأغلب الجيل الجديد هو من المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى في أوروبا والعالم العربي، وليسوا مجرد شباب فارغين أو عاطلين عن العمل.
ثمة مسافة قصيرة جداً بين الحياة والموت، لكنّها نفسياً وثقافياً كبيرة جداً؛ فكيف يمكن أن يقطعها اليوم مئات الشباب بهذه السهولة عبر تلك العمليات الانتحارية؟ لعلّه سؤال يستحق عناء التفكير والبحث الجادّ.
(الغد 2016-11-04)