هل خرجت تركيا حقاً من معركة «الرقة»؟
هل استعجل أكراد سوريا الإعلان عن “تحييد” تركيا عن معركة “الرقة”؟
سؤال يستمد مشروعيته من مصدرين اثنين: الأول، أن ليس في التصريحات الأمريكية ما يؤكد الرواية الكردية بحرفيتها، هناك تثمين أمريكي دائم لدور أنقرة وموقعها في حلف “النيتو” … وهناك أحاديث أمريكية عن دور تركي “لاحق” في معركة الرقة، التي لن تكون سهلة أو قصيرة الآجال وفقاً للتقديرات الأمريكية … والثاني، من الأنباء التي يجري تداولها على شكل شائعات وأقاويل، عن “جائزة ترضية” قدمتها واشنطن لأنقرة نظير تخليها عن المشاركة في معركة “الرقة” وتتعلق أساساً بإعطائها ضوءً اخضر لاجتياح مدينة “الباب” وطرد “داعش” منها، وفقاً لدارج الصيغ والمعادلات التي يجري تداولها بكثرة هذه الأيام: الرقة مقابل الباب، حلب مقابل الرقة، واحياناً حلب مقابل الموصل، وغير ذلك كثير.
في مطلق الأحوال، ثمة ما يشبه الإجماع بين المراقبين، بأن إطلاق العملية الكردية “غضب الفرات”، الاسم المحمّل بالمعاني ذات الصلة بالعملية التركية في شمال سوريا “درع الفرات”، لا يعني فعلياً أن معركة تحرير الرقة قد بدأت فعلياً… فثمة تقارير ومعلومات صلبة، تؤكد عدم جاهزية القوات البرية (قوات سوريا الديمقراطية) ولا قوات التحالف للشروع جدياً في عملية تحرير عاصمة “دولة الخلافة” … الإعلان جاء متسرعاً على ما يبدو، ومضبوطاً وفقاً التوقيت الانتخابي لواشنطن وساعة هيلاري كلينتون على وجه التحديد، وليس وفقاً للتوقيت الشتوي لسوريا.
على أية حال، لا يعني استبعاد تركيا من المرحلة الأولى من “غضب الفرات”، التي تتمحور حول الاقتراب أكثر من محيط المدينة، من دون اقتحامها أو حتى إحكام الحصار عليها، أن تركيا ستكون مستثناة بالكامل من المراحل اللاحقة للعملية، الباب ما زال مفتوحات للمقايضات والتسويات، والأتراك ليسوا في عجلة من أمرهم، وواشنطن التي خدعت أكراد سوريا أكثر من مرة، لن تتردد في خداعهم مرة أخرى إضافية، وهذا ما تستشعره القيادات الكردية ذاتها، التي وإن كانت غير مطمئنة للالتزام الأمريكي الثابت، إلا أنها لا تمتلك سوى أصعب الخيارات، التي تراوح ما بين السيء والأسوأ… واشنطن لم تسقط تركيا من حساباتها حتى الآن على الأقل، لكن استدعاء الدور التركي في الشمال السوري، سيظل رهناً بحركة الميدان وحساباته من جهة وبتطورات العلاقات بين موسكو وواشنطن من جهة ثانية.
واشنطن حريصة على أفضل العلاقات مع تركيا، ليس لأنها عضو في حلف الأطلسي فحسب، بل ولأنها البوابة للتدخل العسكري الأمريكي في الأزمة السورية، براً وجواً … زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية لأنقرة، المتزامنة مع إعلان بدء معركة تحرير الرقة، تأتي في إطار تعزيز هذا التحالف، وتبديد مساحات سوء الفهم والخلاف، وعرض تسويات وجوائز ترضية على الزعيم التركي رجب طيب أردوغان … ودائماً من “كيس” سوريا وشعبها ومستقبلها، وليس من الكيس الأمريكي بالطبع.
في هذا السياق، يصعب معرفة ما الذي قدمته الولايات المتحدة لتركيا لضمان “تحييدها” عن معركة الموصل، ولو بصورة مؤقتة ومرحلية … لكن الخيال السياسي يسمح بالاعتقاد بوجود مقايضات وتسويات، مثلما يسمح بالتكهن بأن الحليف التركي، الذي يعرف حده تماماً، سيتوقف عنده، ولن يقامر بالاستجابة لتأكيدات أردوغان بالمشاركة التركية المباشرة في معركة تحرير الرقة … ربما يستعيض عن ذلك، بإعطاء أوامر لجيشه بالتحرك على جبهات أخرى.
الأكراد يذهبون إلى معركة الرقة، بقدم للأمام وثانية للوراء … ليس لهم هناك ديموغرافيا ولا جغرافيا … حربهم فيها وقائية، بل ومدفوعة من واشنطن أساساً، وخسائرهم فيها، ستكون الثمن الذي سيتعين على الكرد دفعه من دماء أبنائهم وبناتهم، نظير البرهنة لواشنطن على أنهم قوة مفيدة، ولا مصلحة لها بالتخلي عنهم … والأرجح أن صفقة الرقة مقابل الباب، لا تقنع الكرد، أولاً لأن الباب أكثر أهمية لهم ولمشروعهم من الرقة … وثانياً، لأن واشنطن لا تملك الشيء الكثير لتقدمه لتركيا في الباب، فهذه البلدة وجوارها، تقع من ضمن دائرة الخطوط الحمراء الروسية – الإيرانية – السورية، وليست مسيّجة بالخطوط الحمراء الامريكية، كما هو حال بلدة منبج وجوارها، التي يخشى الكرد، من أن تطالب بها أنقرة، وأن تقدمها واشنطن لهم على طبق من فضة، نظير كسب ود الحليفة الأطلسية الكبرى: تركيا.
في ذروة “مأزق الخيارات” الذي يعتصر أكراد سوريا، صدرت عنهم مواقف لافتة، منها ترحيبهم بمشاركة الجيش السوري في معركة تحرير الرقة، بل وفي تحرير أية منطقة تحتلها “داعش” … بعد أن استخلصوا – والكلام لهم – درساً من المعارك الأخيرة مع الجيش السوري على بعض محاور شمال – شرق البلاد، مفاده: لا ضرورة لقتال الجيش السوري والمقامرة بمزيد من الخسائر في الأرواح والبنى التحتية، طالما أن الجلوس على مائدة تفاوض واحدة، هو الخيار الوحيد والحتمي لإنهاء الأزمة السورية … مثل هذا التطور، يسمح بحدوث تطور مهم في علاقات الطرف الكردي مع المركز الدمشقي، وقبل ذلك، يسمح باختلاط الأوراق والتحالفات والمحاور على وقع احتياجات الميدان وحساباته شديدة التعقيد.
(الدستور2016-11-08)