«دروس كيسنجر» بعد... «عقيدة أوباما» (2-2)
لم يترك جيفري غولدبيرغ، تداعيات وردود الفعل على انتخاب دونالد ترامب تَمُر, دون سماع تعليقات وآراء هنري كيسنجر إزاء هذا الحدث الذي ما يزال يشغل دوائر عديدة في العالم أجمع, وبخاصة ان المسافة بين اعلان فوزه في فجر التاسع من تشرين الثاني الجاري وموعد تسلمه منصبه رسمياً في العشرين من كانون الثاني 2017، ستكون حبلى بالمفاجآت والتحليلات والقراءات والتوقعات، حيث سيبدأ الرئيس المنتخَب في الاعلان عن الاسماء التي ستشغل المواقع الرئيسية في ادارته, ما سيعكس – ضمن امور اخرى – طبيعة السياسات التي ينتوي ترامب تنفيذها في ضوء المواقف المعروفة لمن سيتولون الحقائب المهمة، وبخاصة وزارة الخارجية وايضا الدفاع, ناهيك عن مستشار الأمن القومي ومندوب واشنطن لدى الأمم المتحدة, فضلا عن رئيس اركان البيت الابيض وطاقم المستشارين وغيرهم ممن سيعاونون الرئيس في رسم سياسته الخارجية على وجه الخصوص.
غولدبيرغ، اسمى المقابلة المُطوّلة نسبياً التي اجراها مع «ثعلب اميركا العجوز» قبل فوز ترامب, «دروس كيسنجر» واستدركها بأسئلة سجالية حول تداعيات نجاح ترامب, وبخاصة أن الاخير كان قد «تعهّد» باتخاذ قرارات وتبني سياسات تكاد تكون متعاكسة مع ما انتهجه باراك اوباما, سواء في ما خص علاقة واشنطن بموسكو ام في اختلال الميزان التجاري لصالح بيجيين ودائما في اعتبار الاتفاق النووي مع ايران «أسوأ» اتفاق يمكن تخيّله, وبالتالي سيقوم بإلغائه, وغيرها من «التعهدات» التي اثارت مخاوف عديدة في عواصم كثيرة, تقف في مقدمتها بروكسل بما هي عاصمة الاتحاد الأوروبي وايضا مقر حلف شمال الاطلسي, الذي قال ترامب ان بلاده لن تواصل تقديم الحماية لاعضائه, ما لم يدفعوا ثمن «صيانة» وكلفة القوات الاميركية الموجودة في أوروبا (دع عنك اقواله عن كوريا الجنوبية واليابان).
هنا سأل غولدبيرغ كيسنجر عن الكيفية التي سترد بها إيران؟ فأجاب: إيران ستستنتج، بشكل مُحِق، ان الاتفاقية النووية اكثر هشاشة، عما كانت عليها، لكنها ستُظهِر مزيداً من الإصرار، حتى تحت الضغوط، وهي تدرس ترامب. لا أحد يعرف اكثر عن سياسته الخارجية ولذلك فان الجميع، سيمر بمرحلة الدراسة،بل–يستطرد كيسنجر – لنكون اكثر دقة «جنوناً من الدراسة».
لماذا تعتقد ان هذا حصل؟ يسأل صحافي اتلانتك الشهير, فيرد وزير الخارجية الأميركي الأسبق: جزء كبير من «ظاهرة ترامب» هو رد فعل من «وسط» اميركا على هجمات الاوساط الفكرية والاكاديمية على قيمهم.. وهناك اسباب اخرى لكن هذا سبب «كبير».
لم ينس غولدبيرغ طبعاً أن يُنهي مقابلته الاستدراكية (وليس الاساسية) بسؤال ضروري مفاده: كيف تنصح ترامب ان يُقدِّم نفسه للعالم؟ يجيب كيسنجر: أولاً، عليه ان يُظهِر انه مُتابِع للتحديات المعروفة، ثانياً، أن يُظهِر أنه مُدْرِك لطبيعة هذا التطور. الرئيس ــ يضيف كيسنجر: يحمل مسؤولية محتومة بالتوجيه: ما الذي نسعى لتحقيقه؟ لماذا؟.
لِفعل ذلك عليه, يقول كيسنجر, ان يُحلِّل ويُعلِن.
ما ان انتهى غولدبيرغ من استدراك رأي وقراءة ثعلب أميركا العجوز في ظاهرة ترامب، حتى اورد ما كان سجّله عن انطباعاته في التمهيد لمقابلته مع هنري كيسنجر, والتي كانت في الاساس بسبب «ان الاخير كان يُعبِّر لعدد من المعارف المشتركين عن افكاره النقدية حول مقابلته مع اوباما, وحول ادارة اوباما لشؤون العالم». ما دفعه للاتصال بكيسنجر وسماع افكاره حولها, بالاضافة الى سماع رأيه في الموسم الانتخابي الاميركي المُختَلِف كما وصفه غولدبيرغ.
وكان ما اورده عن تلك « الملابسات « التي وقعت معه لترتيب مقابلة مع
« اكثر صانع سياسة اميركية خارجية خلال العقود الماضية، وربما على الاطلاق»، كما كتب غولدبيرغ حرفياً ,هو طلب كيسنجر منه إن كانت «القصة» التي نتجت عن مقابلته معه, ستكون بنفس «طول» مقابلته مع اوباما(24 الف كلمة) فاجابه غولدبيرغ: «دكتور كيسنجر هذه مقالة تُظهِر عدة مقابلات مع رئيس الولايات المتحدة».
وهنا – كما يروي غولدبيرغ: توقف (كيسنجر) وقال لي: اكتب التالي واطبعه في بداية قصتك كأول ما يراه القارئ: رغم أن كيسنجر كان خارج الحكومة لبضعة عقود، لكنني وجدت أن نرجسيته لم تنقص... مع الوقت».
طبعاً يورد الصحافي ملاحظات كثيرة عن سلوك كيسنجر, وكيف انه في النهاية طلب الاطّلاع على المقابلة قبل نشرها, في شكلها النهائي، لكن كيسنجر في المقابلة ينتقد اوباما عندما سأله غولدبيرغ كيف تُعرِّف عقيدة السياسة الخارجية لأوباما؟ ليجيب: «عقيدة» اوباما كما وصفتَها في مقالتِك تُشير الى ان اميركا تحركت ضد قِيمها الاساسية على بُعد من الاماكن في العالم، وبالتالي وضعت نفسها في موقع صعب، لذلك بحسب الفكرة – ساهمت اميركا بتبرير قيامها بانسحاب من مناطق كانت ستجعل الامور بها أسوأ، يجب – يضيف – كيسنجر – ان نخشى ان تصبح «عقيدة» اوباما «سياسة خارجية غيابية وقائمة على رد الفعل في جوهرها، فضلا عن اوباما يبدو انه لا يعتبر نفسه جزءا من عملية سياسية ولكن – كظاهرة فريدة بقدرة فريدة.
(الراي 2016-11-17)