بين غول وأردوغان
لعلّ أبرز سمة يمكن التقاطها عن قرب للرئيس التركي السابق عبدالله غول، بالرغم من دبلوماسيته الواضحة (في إجاباته على أسئلتنا في "الغد")، هي مصداقيته وإيمانه الحقيقي بما يقول؛ بخاصة التمسك بالمسار الديمقراطي التعددي، وفك شيفرة العلاقة بين الإسلام والعلمانية بصورة سلسة جلية من غير تعقيد ولا تحايل!
تجنّب عبدالله غول تظهير خلافاته مع الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان؛ زعيم حزب العدالة والتنمية، ورفيقه في تأسيس تجربة الحزب، التي نقلت "الحركة الإسلامية" التركية إلى مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي"، وأخرجتها من الحلقة المفرغة التي كانت تدور فيها.
مع ذلك، يمكنك التقاط نقاط الاختلاف بين الرجلين بين سطور أجوبة غول، بقوله إنّه يتمنى عودة حزب العدالة إلى المسار الذي بدأ فيه؛ أو عن تفسيره لابتعاده الراهن عن الشأن السياسي، عبر نقده لفكرة التمسك بالسلطة عبر "تدوير المواقع"، واختلافه مع جزء من السياسات التركية تجاه المنطقة، مع تمسكه بحق الشعوب في الديمقراطية ورفض الأساليب السلطوية والدموية في مواجهتها.
قيمة عبدالله غول تتجاوز أنّه كان رئيسا لتركيا لمدة سبعة أعوام، ووزيرا للخارجية ورئيسا للوزراء، ومفكرا اقتصاديا كان له دورٌ بارز في نقل تركيا من دول العالم المتخبطة بين المافيات والفساد السياسي إلى دولة متقدمة اقتصاديا على مستوى العالم في فترة وجيزة؛ وكذلك قيمته كقيادي إسلامي ساهم في هيكلة شعارات "العدالة والتنمية" (مع أردوغان وأحمد داود أوغلو وآخرين) لتكون مستبطنة بصورة معمقة للديمقراطية والحداثة والانتقال من الأيديولوجي الشعاراتي العاطفي إلى السياسي الوطني الواقعي.
عندما سألناه عن تجربة "العدالة والتنمية" وتقييمه لتجارب الإسلاميين في المنطقة العربية، نقل الحديث إلى فضاء آخر قد يبدو بعيداً عن مرمى السؤال، لكنه -في الحقيقة- يقع في صميمه؛ إذ قال: "عندما يكون هناك حزب سياسي معين، فهذا الحزب عندما يستلم السلطة قد تكون له نجاحات كبيرة وقد تكون له إخفاقات معينة. وفي السياسة، فإن الحزب عادة وحتى يدافع عن إخفاقاته، يصورها كأنها نجاحات، لكن يجب عدم تجيير الموضوع للدين الإسلامي بشكل عام. هناك تموجات في السياسة وفي مسيرة الأحزاب، قد تكون هناك نجاحات معينة، أيضا تكون هناك تجارب سيئة أو إخفاقات معينة.
"عندما نرى أن الدين الإسلامي السمح يدعو إلى خدمة المجتمع بتعاليم الله سبحانه وتعالى والرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ولكل الأعراق والأجناس، بشكل جيد وصحيح، ولكن السياسة تختلف؛ وعندما تكون هناك إخفاقات للسياسة تُجيَر لمسألة التوجه الاسلامي، فسيكون ذلك خاطئا جدا".
ويضيف: "عندما نتحدث عن حزب إسلامي مثلا في بلد مثل تركيا، يعتنق فيه 99 % من الشعب الدين الإسلامي، فهل يعني ذلك أن نسبة أصوات هذا الحزب هي بهذه النسبة؟ هذا غير صحيح. إذا يجب أن نبادر لمرحلة وعمل نخدم به الشعب بجميع طوائفه وأطيافه، بحيث تقيم الحركة أو الحزب بشكل ينال عليه التقدير".
في ثنايا جواب غول معالم فكر سياسي إسلامي جديد بالكلية، مختلف تماماً عن "الجراحة التجميلية" التي تحاول الحركات الإسلامية المشرقية القيام بها. فهو ينتقل بصورة بنيوية إلى أفكار جديدة تنتقد مفهوم "الأحزاب الإسلامية" في الأصل، وتجعل التركيز على الجانب البرامجي. وعندما يتحدث عن الديمقراطية والعلمانية والإسلام، يرى أنّ هناك معايير تتمثل في الحوكمة والحكم الجيد والشفافية، هي التي تميّز بين الأحزاب والقوى المتنافسة.
سحر النجاحات السياسية والاقتصادية للتجربة التركية والخطابات الشعبية للرئيس أردوغان، من المفترض ألا تلفتنا عن رؤية الأسس الفكرية الصلبة التي شكّلت "نقطة التحول" الحقيقية في هذه التجربة، كما ألمح إليها غول.
(الغد 2016-11-21)