صباح "الدولة المدنية"!
بعد أن أقرّ مجلس النواب العراقي، يوم أول من أمس، قانون "الحشد الشعبي"، فإنّ التصوّر الإيراني للمنطقة أصبح واضحاً. وهو لا يعتمد فقط على ضمان ولاء الحكومات في كل من العراق وسورية ولبنان، بل أيضاً، بالدرجة نفسها وربما أكبر، على "المليشيات" المسلّحة؛ فهناك "الحشد الشعبي" في العراق، و"حزب الله" في لبنان، وستتم مأسسة المليشيات الحالية التي تعمل تحت إمرة قاسم سليماني في سورية، حتى لو تمّ "إنجاز المهمة" بالقضاء على الجزء الأكبر من المعارضة المسلّحة.
قانون "هيئة الحشد الشعبي" يشرعن المليشيات الطائفية، ويعطيها صيغة قانونية. وهي في مواقفها الدينية والأيديولوجية لا تختلف عن "داعش"، ولا في جرائمها وفكرها المتطرف. لكّن الفرق بين الطرفين أن "الحشد الشعبي" في ظهره إيران وروسيا، وتشتبك مصالحه اليوم مع الإدارة الأميركية في العراق، بينما "داعش" ضد الجميع، حتى القوى السنية المقاومة في العراق وسورية.
لكن ما هو أخطر وأكثر سوءاً من ذلك أنّ القانون يعطي "حصانة قانونية" لأفراد "الحشد الشعبي"، ويمنع محاكمتهم، ولو بجرائم حرب، إلا بموافقة رئيس الوزراء، وأصبح "الحشد" يعتبر "قوة رديفة للجيش العراق"، وتتراوح الأعداد المقدّرة له بين 100 و140 ألف مقاتل، لهم موازنة مستقلة خاصة، وقيادة مستقلة عن الجيش ووزارة الداخلية.
المفارقة أنّ إيران لم تعد تشعر بضرورة إخفاء أجندتها في الهيمنة على المنطقة، والاعتماد على المليشيات الطائفية، إذ صرّح قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، أنّه قد يتم إرسال "الحشد الشعبي" إلى سورية، بعد الانتهاء من "داعش" في العراق (كما تمّ إرسال حزب الله اللبناني إلى هناك سابقاً)، فالكل يعمل تحت إمرة "الولي الفقيه"، بينما الكيانات السياسية والسيادة الوطنية كلها تتبخر.
نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، صالح المطلق، علّق على قانون الحشد الشعبي بالقول إنّ "أحلام الدولة المدنية في العراق تبخرت"! لكن في الواقع لا يوجد أحد يكترث اليوم بالدولة المدنية؛ لا من العراقيين ولا من السوريين ولا حتى العمّ سام، ولا الدول العربية التي رعت الثورة المضادة ودعمتها لنصل إلى ما وصلنا إليه في أغلب الدول العربية!
"Who Cares؟"؛ على رأي السياسيين الأميركيين! فالأميركيون يتعاونون اليوم مع "الحشد الشعبي"، هم في الجوّ و"عصائب أهل الحق" ومساعدو قاسم سليماني على الأرض. وفي سورية الروس في الجوّ وحزب الله والمليشيات الشيعية على الأرض. والحليف الرئيس للأميركيين اليوم في المنطقة هو المليشيات الكردية المسلّحة، البشمركة في العراق، و"قوات سورية الديمقراطية" في الشمال السوري. والعرب يعتمدون على مليشيات مسلحة، وكذلك الأتراك. و"داعش" يقدّم نفسه بوصفه الحامي والمدافع عن "السنة العرب" في ظل غياب أي قوة إقليمية عربية سنية، وبعد التحولات الجذرية في الموقف التركي.
الدول العربية تتفكك، والمليشيات أصبحت الفاعل الحقيقي العابر للحدود، بدلاً من الشركات متعددة الجنسية. والإنسان العربي تحوّل من مواطن إلى عضو في مليشيا أو طائفة أو عشيرة لتوفير سبل الحماية، وعمليات التطهير الطائفي والعرقي والهندسة الاجتماعية جارية على قدمٍ وساق.
وربما أطرف ما سمعته هو من رجل دين مسيحي في الموصل، من القرى التي تحررت من "داعش"، على إذاعة "بي. بي. سي"، عندما قال إنّهم يفضلون ضم بلدته في أطراف الموصل إلى الحكم الكردي، لأنّ الأكراد هم من حرروهم، بينما تخلت عنهم خلال الأعوام الماضية حكومة العراق. فصباح الدولة المدنية المقبلة في المنطقة!
***
هذا لا يعني أنّني لا أتفق مع الصديق النائب خالد رمضان في مشروعه للدولة المدنية، بل هي الحل والحلم. لكنني لست متفائلاً!
(الغد 2016-11-29)