الخروج على المجتمع والخروج منه
جئنا إلى الدنيا تسبقنا المصاعب، وجاء أبناؤنا تسبقهم مصاعبنا ومصاعب جديدة إضافية. وعندما يكون أولادنا في حال أكثر صعوبة من حالنا، فإن ذلك يعني، ببساطة، أننا لا نتقدم! ولا يبدو هذا قولا جديدا، أو لا يضيف شيئا. لكن ما يمكن قوله هنا أن فئة من المواطنين تحظى بفرص ومزايا خرافية لدرجة تعزلهم عن المجتمع أو تحولهم إلى مجتمع آخر، وفئة أخرى تواجه حرمانا وتهميشا يخرجانها أيضا من المجتمع. الجديد والمرعب هو الخروج من المجتمع، أو الخروج عليه.
لا يتشكل المجتمع على نحو تلقائي؛ بمجرد وجود ساكنين أو مقيمين أو مواطنين يعيشون معا. فالمجتمع ليس مجموع الأفراد، لكنه كيان مختلف، وإن كان يتشكل منهم. والحال أن المجتمع يتشكل من تفاعل الأفراد وعلاقاتهم ووعيهم، وليس منهم كأشخاص أو أفراد؛ فلا مجتمع بلا منظومة ثقافية اجتماعية تدل عليه، مثل التنظيم الاجتماعي والمدن والبلدات والأسواق والعمارة والشعر والموسيقى والنحت وأسلوب الحياة. وكما أن الحياة يُستدل عليها بالأحياء، فإن المجتمعات يستدل عليها بوعي الذات.
قصة المهمشين والمهاجرين واللاجئين والغاضبين والمتمردين وسكان العشوائيات والأحياء والمناطق الفقيرة، هي -ببساطة- عجزهم عن المشاركة والاندماج والانتماء؛ إذ لم يستطيعوا أن يندمجوا في مجتمعات انتقلوا إليها، ولم يعودوا قادرين على الاحتفاظ بما كانوا عليه. وفي أحيان، يدفعهم الفقر والتهميش إلى الأعمال الرثّة، فيعجزون عن المشاركة الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية... لقد خرجوا من المجتمعات.
أما قصة "داعش" و"القاعدة"، والجماعات الدينية المتطرفة من غير عنف، فهي الخروج على المجتمع. لكن الظاهرة، بالطبع، لا تقتصر على المتطرفين والمهمشين؛ هما حالتان صارختان يوجد بينهما عدد كبير من الناس وبنسب متفاوتة من الخروج/ التهميش، ربما يزيدون على نصف السكان، وهم أكثر من ثلث سكان الكوكب.
هناك ظاهرتان مرعبتان في الخروج لا تقلان في خطورتهما عن الجماعات المتطرفة؛ هما الخروج الإرادي. أولاهما، خروج نخبوي مستمد من قدرات مالية كبيرة ونفسية استعلائية أو انعزالية. وها هم في الأردن يستخدمون نفوذهم وتأثيرهم لإصدار تشريعات تساعدهم على بناء مجتمعات سكنية مغلقة، وتشريعات أخرى لمزيد من الامتيازات تحت اسم حماية؛ حماية من مَن؟ ومن ماذا؟
والظاهرة الأخرى، هي خروج جمعي يتمثل بالسلبية تجاه المجتمع المحيط وقضاياه، والاستعلاء عليها، وإنشاء حالة هلامية تعويضية لا تمنح انتماء حقيقيا. لكنها عمليات انفصال عن الواقع. ومن هذه الفئة بعض الجماعات الدينية والاجتماعية التي تنشئ انتماء خاصا بها ليس كافيا ولا حقيقيا، ولكنه يخرجها من المجتمع الحقيقي والأصلي.
ثمة ظاهرة مدهشة ومحيرة قليلا؛ إسلاميون وقوميون ويساريون يتخذون مفاهيم ومواقف نفسية واجتماعية متطابقة من قضايا وأفكار يفترض أن فهمها وتفسيرها وحتى تسميتها يجب أن يكون مختلفا حسب منطلقات التفكير والاعتقاد. لكن المحير: لماذا إذن يكونون أعداء او مختلفين فيما بينهم؟ أظن أن ما يزيل الحيرة أنها مواقف في جوهرها ودوافعها ليست إسلامية ولا قومية ولا يسارية، وإنما حالة نفسية واجتماعية مستمدة من مستوى التفاعل مع المجتمع المحيط والأحداث من دون إدراك لذلك أو من دون اعتراف.
بين الخروج على المجتمع والخروج منه، تدور قصة الناس في التفاعل. فإن لم تكن قادرا على التفاعل مع المجتمع؛ تشاركه وتنتمي إليه ويتقبلك وتتقبله، فإنك تخرج منه أو تخرج عليه.
(الغد 2016-12-15)