بوتين إذ يتفادى كمين.. اوباما
يكاد لا يختلف اثنان على ان ردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين, الذي اتّسم بالعقلانية والهدوء بل بالدهاء وبُعد النظر، على قرار ادارة اوباما التارِكة ، طرد دبلوماسيين روس مع تهديدات بأن هذه الاجراءات «لن» تتوقف عند هذا الحد، قد أحبط على نحو شبه كامل محاولة ادارة اوباما وضع اسفين في علاقات موسكو بواشنطن بعد العشرين من الشهر الجاري، ذلك الموعد الذي سيشهد دخول رئيس جديد للولايات المتحدة يحمل الرقم 45 في نادي الرؤساء الاميركيين، ولم يسبق له ان خاض اي تجربة سياسية او دبلوماسية, او تقلّد منصباً في هذين «التخصصين»، سوى انه توفر على دفتر شيكات «سمين», استخدمه للتبرع في حملات الحِزبَين (نعم الحزبين) الديمقراطي اولاً ولاحقاً الجمهوري, لتمويل حملات المرشحين للرئاسة او لمجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ, وما عدا ذلك بقي «مُخلِصاً» لأولوياته في الاتّجار بالعقارات وفي احتكار مسابقة ملكة جمال العالم.
ما علينا..
بوتين.. الذي يقود دبلوماسية روسية, نشِطة ومتقدِمة، تتخذ صفة الهجوم متعدد الجبهات والاتجاهات, وتجمع بين السياسي والدبلوماسي والعسكري, ولكن في اطار بُعد استراتيجي متكامل النظرة، محسوب بدقة يلحظ في الاساس المتغيرات والتحولات التي طرأت على موازين القوى الدولية والاقليمية, والآخذة أيضاً في التعمق أقلُّه في انهيار ما سعت اليه واشنطن بحماسة وانانية مُفرِطة, لبناء نظام دولي جديد يقوم على تفرّدها في قيادته, وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، ذلك الانهيار الذي وصفه بوتين في منتدى ميونيخ للأمن عام 2007 بأنه «اكبر كارثة جيواستراتيجية في القرن العشرين»، تلك القراءة التي حكمت سياسات الرئيس الروسي منذ ذلك الحين (بل قبله)... حتى الان.
نقول: بوتين رأى بأم عينيه «الحُفرة» التي حفرها اوباما له, بقراره في ربع الساعة الاخيرة من ولايته، سعياً منه الى تسميم علاقة الرئيس الروسي بنظيره الاميركي الجديد, الذي لا يُشاطِر اوباما اراءه السياسية ولا سياسته المُوغِلَة في عِدائها لروسيا, والتي ترجمها مؤخراً في كلمات وعبارات تفوح منها رائحة الاستعلاء والغطرسة, التي ميزت السياسات الاميركية المتعاقبة تجاه روسيا، سواء روسيا السوفياتية, حتى روسيا «المُتحرِّرة» من قيود الايديولوجيا والمنخرطة في اقتصادات السوق الدولية والعضو في منظمة التجارة العالمية, وغير المُلتزِمة بأي سياسة «حمائية» في علاقاتها التجارية والاقتصادية والمالية.
إذ قال اوباما ان روسيا «بلد ضعيف لا يصل الى مستوى الدولة العظمى وهي لا تًصدِّر للعالم سوى السلاح والنفط والغاز» شاطباً بِحقد (وهو ليس غبِّياً بالمناسبة.. مقارنة ببوش الابن او ريغان) تاريخ تلك الدولة الاوراسية العريقة, في حضارتها وثقافتها واسهاماتها في الحضارة الانسانية، إلاّ انها «السياسة» وغطرسة القوة الباطِشة التي تُعلي من شأن القوة الخشنة, وتدير ظهرها للقوة الناعمة التي تسعى اميركا (التي بلا تاريخ او حضارة مُمتدّة.. يُعتد بها) الى فرضها على العالم، لكنها, لِحُسن الحظ, تلقى مقاومة شرسة من معظم شعوب المعمورة, بمن فيهم أولئك الذين يحملون صفة الحلفاء لها (اقرأ الاتباع) في اوروبا وبعض دول آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
صحيفة نيويورك تايمز الاميركية التي وقفت في الانتخابات الرئاسية ضد ترامب ولصالح هيلاري كلينتون رأت أن العقوبات التي فرضتها ادارة اوباما على موسكو، تستهدف أيضاً، الرئيس المُنتخَب ترامب، الذي كان قد شكَّك في ان يكون للحكومة الروسية اي دور في قرصنة لجنة الحزب الديمقراطي الاميركي، فيما اعتبر آخرون العقوبات التي فرضها اوباما, بأنها «ضربة استباقِية» لِخَلفِه ترامب, وإن كانت صحيفة الغارديان البريطانية قد وصفت «التدخل» الروسي في عملية الانتخابات الاميركية بأنه ليس سوى «الحلقة الاخيرة» من مسلسل عالمي يُغير نظرتنا (اي الغرب) للتاريخ المعاصِر منذ العام 1989 (..) مضيفة: انه إذا ثبت بشكل قاطع, ان وكالات التجسس الروسية تلاعبت في الانتخابات الاميركية، فمن الجدير بالذكر – تستطرد الصحيفة – ان هناك حالات سابقة اخرى ,ثبت فيها ان لمثل هذه التسريبات تأثيراً كبيراً, كما حدث في بولندا العام 2016 وفي المجر 2010.
هي إذا «البوتين فوبيا» كما باتت تَصِفها وسائل الاعلام الغربية, الأمر الذي يحيلنا الى مشهد عالمي جديد آخذ في التشكل والبروز, لم يكن انقلاب اوكرانيا الذي رتّبته واشنطن مع القوى الفاشية الاوكرانية, سوى احد فصول هذا المشهد, ليأتي الانخراط الروسي المباشر في الازمة السورية, ونجاح موسكو في توجيه ضربة قاصمة للجماعات الارهابية في بلاد الشام فضلاً عن تحرير حلب «وعزل» اميركا في جهود وقف اطلاق النار الشامل, ثم بروز الثلاثي الروسي الايراني التركي كمُقرِّر لمسار الأزمة السورية السياسي (اعلان موسكو ثم مفاوضات استانة المرتقبة) سوى الاشارات الدالة على ان ادارة اوبما اتخذت ما اتخذته من عقوبات ضد موسكو, بهدف «الانتقام لفشل سياستها الخارجية» على ما قالت بالفعل ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية, التي لم تكتف بذل بل اضافت «.. ادارة اوبما ليست على الجانب الصحيح من التاريخ, وانما... في اسفلِه».
قرار بوتين بعدم ترحيل دبلوماسيين اميركيين رداً على خطوات ادارة اوبما «غير الصديقة» كما وصفها الرئيس الروسي، صفعة قوية لإدارة راحلة فشلت في ادارة كثير من الملفات الخارجية, وارادت ان تُبقي على «إرث» ظنّت للحظة, انه ثري وجدير, إلاّ انه بات في مهب الريح... بعد كل هذا التخبط والفشل الموصوفين.
الراي 2017-01-01