أمين عام الأمم المتحدة والهيكل
يبدو أنّ كل ما يتعلق بالقدس القديمة معرّض للتحريف الفوري، حتى لو كان قد حدث الآن، وبينما أجهزة التسجيل بأنواعها تعمل. تماماً كما حدث في قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو القرار الذي اعتبره كثيرون بمثابة إنكار للعلاقة اليهودية بالمدينة، مع أنّ القرار لم يذهب إلى هذا. والآن، يثير الضجة تصريح أمين عام الأمم المتحدة الجديد، بشأن "الهيكل"؛ فقد سارع الكثيرون إلى القول إنّه أشار إلى أنّ "المسجد الأقصى كان معبداً يهودياً".
جاء تصريح أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي لم يحفظ غالبية الناس اسمه بعد، في لقاء سارعت الإذاعة الإسرائيلية إلى إجرائه واقتناصه منه. لكن بالعودة إلى النص الذي نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإنّه يقول: "إن هكيل القدس الذي دمره الرومان كان يهودياً". ولم يذكر غوتيريش أنّ الهيكل الذي يتحدث عنه هو "الأقصى"، أو حتى مكانه. وعملياً، هناك خلاف كبير حتى بين اليهود أنفسهم حول مكان الهيكل؛ فبعضهم يختلف على مكانه في محيط المسجد الأقصى (الحرم الشريف) ككل، وبعضهم يعتقد أنه كان فعلا مكان مبنى المسجد الأقصى الحالي، والبعض يزعم أنّه مكان قبة الصخرة، وبعضهم يذكر أنّه في مكان آخر داخل الحرم ذاته. ويقول الكاتب الإسرائيلي "غيرشوم غورنبيرغ" في كتابه "اليوم الآخر": "لا أحد يعرف تماما أين كان الهيكل فوق الجبل". ومن دون الدخول في النظريات اليهودية المؤمنة بأنّ الهيكل كان موجوداً في منطقة الحرم الشريف، ومن دون نقاش اختلافاتها حول شكل وتكوين ومكان هذا الهيكل، ومن دون تجاهل جزء من علماء الآثار الذين يقول عنهم غورنبيرغ إنهم يقولون "إنّه لا دليل على أن غالبية التاريخ الذي سجله الكتاب المقدس العبري قد حدث على الإطلاق"، فإنّ الأكيد أن القدس هي أفضل حالات توظيف وتحريف التاريخ لأغراض سياسية وإعلامية.
أشار غوتيريش في حديثه إلى أهمية القدس للأديان السماوية الثلاثة، تماما كما فعل قرار "اليونسكو" المذكور. لكن في الحالتين انتقى الإعلام الإسرائيلي جزءا للتركيز عليه، وحتى لتأويله بطريقة معينة.
للوهلة لأولى، يمكن القول إنّ طبيعة هذا الجدل حول القدس هي انعكاس للتعريف الصفري للصراع؛ إذ لا يسمح أي أحد برؤية الآخر موجوداً. ولعل عنوان صحيفة "جيروزالم بوست" يعكس ذلك؛ ففي وصفها لردود الفعل الفلسطينية، قالت الصحيفة: "الفلسطينيون ينتقدون تصريحات أمين عام الأمم المتحدة حول علاقة اليهود بجبل الهيكل". وفضلا عـن أن "جيروزالم بوست" تقول إنّ غوتيريش أشار إلى ما يسميه اليهود "جبل الهيكل"، مع أنّه لم يفعل، فإنها تشير حقيقة إلى الواقع بأنّ أي ذكر لعلاقة الآخر بالمدينة، تبدو كما لو كانت إنكارا ورفضا لعلاقة الطرف الثاني بالمدينة.
لا تناقش هذا المقالة موضوع الحقوق والمزاعم التاريخية والدينية، ولكنها تختص بكيفية توظيف الدين والتاريخ في السياسة، من واقع الجدل الراهن حول تاريخ المدينة وأماكنها المقدسة.
لقد كان العلمانيون اليهود، الصهاينة، أكثر من استخدم الروايات التوراتية لصنع الحركة القومية اليهودية (الصهيونية)، في عقل ومخيلة اليهود. وتُستخدم القدس عادة لإعطاء الصراع صبغة "صفرية"؛ أي من دون حلول وسط، وللهرب من قضايا واستحقاقات مهمة جدا في الصراع، مثل الأرض واللاجئين والسيادة.
يحتاج العرب في تعاملهم مع الحملات الإعلامية الإسرائيلية بشأن الأماكن المقدسة إلى أمرين: أولهما، خطاب إعلامي ناضج لا ينجرّ لعناوين الصحف والتصريحات الإسرائيلية. ففي حالتي "اليونسكو" وغوتيريش، صاغ الساسة والإعلام الإسرائيليون، الرواية الإعلامية كما يريدونها، وانجرّ العالم يعلّق على هذه الرواية، لا على حقيقة النصوص الأصلية في قرار اليونسكو أو تصريح أمين عام الأمم المتحدة. وثانياً، رغم كل الدراسات والأبحاث والندوات والمؤتمرات العربية التي أجريت حول القدس، لا يبدو أنّ هناك قدرة على توظيف نتائج هذه الأبحاث سياسياً وتعبوياً وإعلامياً بطريقة ناجعة، فيصبح الإعلام العربي نوعا من ردة الفعل للإعلام الإسرائيلي، ويبقى في موقع الدفاع، حتى عندما تكون هناك قرارات مهمة مثل قرار اليونسكو سالف الذكر، الذي استطاع الإسرائيليون تحريفه واستخدامه في هجوم مضاد.
الغد 2017-01-31