صناعة الخوف
تعكس الحالة السائدة اليوم في السياسة والاقتصاد والثقافة، الخوف والتخويف. وبالطبع، فإن الخوف والبقاء هما المحركان الأساسيان للحياة، لكن باعتبارهما يؤسسان لتحسين البقاء (النشوء والارتقاء)؛ فلا يمكن تحسين الحياة في الحكم والسياسة والمؤسسات والمجتمعات والثقافة إلا بسلوك تحسين البقاء، وليس بسلوك البقاء واستمرار الخوف والشعور بالتهديد. ففي الحالة الأولى، يحدث التقدم؛ وفي الحالة الثانية، تنكمش الأسواق والمدن وتغيب الثقة... ما من ازدهار في ظل الخوف.
لكن الأسوأ من الخوف أن يتحول إلى سياسة عامة؛ بمعنى أن تستمد السلطات والأسواق والنخب مصالحها من حالة الخوف. ففي هذه الحالة، يتحول إلى استثمار تعمل على إدامته وصيانته مؤسسات متقدمة، توظف إمكاناتها ومهاراتها ومواردها في صناعة الخوف. ويبدو أن السلوك السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي في بلداننا يغلب عليه أنه يعكس حالة من الخوف والشعور بالتهديد. الحكومات والبنوك وشركات الاتصالات والمياه والطاقة والتأمين، تنشئ استراتيجياتها على أساس الخوف وليس تحسين الحياة، وتجد مصلحتها في الخوف أكثر من الثقة، وفي ذلك تمضي في عداء واستعداء مع المجتمعات والطبقات.
والتدين الكاسح أيضا يعكس حالة من الشعور بالخوف أكثر مما هو مستمد من حكمة صافية ومن محبة الله. إذ لا يمكن فهم التناقض بين التدين السائد والمتنامي على نحو غير مسبوق أبدا في التاريخ الإسلامي كله، وبين السلوك الاجتماعي والاقتصادي المشحون بالتوتر والعدائية والتعصب والتطرف والغش والتحرش. لا يمكن في ظل غلبة تدين حكيم وجوهري، أن تستمر الحالة المناقضة للدين في الوقت نفسه.
التفسير الواضح للسياسة وسلوك الشركات والسلوك اليومي والاجتماعي والعام أنه عدائي. والمسألة، ببساطة، أنه في ظل التغير الهائل في الموارد، تتغير الأعمال والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وبما أنه تغير عميق وكبير وليس نهائيا وليس واضحا، فإننا ما نزال في مرحلة انتقالية أو عبور من مرحلة إلى مرحلة. فمن المتوقع أن يسود الشعور بالخوف وعدم اليقين، وبسبب التهديد الذي تنشئه التحولات تجاه الأعمال والمهن والمصالح يتعمق الشعور بندرة الموارد والتنافس على المتاح والمتبقي منها، ويتحول الخوف في زيادته عن الحد إلى صدمة كبرى وعميقة.
لقد اختفت دول ومدن وحضارات على مدى التاريخ بسبب التحولات في الموارد. والخوف على المصير والموارد يغلب على التاريخ الإنساني. والواقع أن المسار والتشكل الإنسانيين يكادان يكونان الخوف والبقاء، وفي حالات من الوفرة والأمان ينشغل الإنسان بتحسين البقاء. في الخوف والسعي إلى البقاء، يغلب على الناس النكوص والعدائية والتوحش في السلوك والأفكار، ويبحثون عن ملجأ وقوى خارجية وغامضة لتحميهم وتنقذهم، أو يعودون إلى التراث والتجارب السابقة للاحتماء والاستئناس بها، فيقدَس التاريخ والتراث ليس لأنهما مقدسان ابتداء، لكن هذا التقديس يمنح المؤمنين شعورا بالأمان.
المشكلة تتضاعف عند العمل على الاستثمار في الخوف وتحويل الفقر والتعصب إلى فزاعة للتسلط على الناس وإضعافهم. ففي ظل هذه الحالة، تنهار الأسواق والمؤسسات، وتنشأ "صناعة الخوف". فازدهار المدارس والمستشفيات الخاصة، واستقواء البنوك والشركات على المواطنين، ونمو الروابط القرابية والدينية وجماعات الأتاوات والبسطات والتسول والباعة المتجولين، والانقسام الاجتماعي والفجوات الاقتصادية والثقافية بين الناس، وأسلوب جمع الضرائب وإنفاقها... تؤشر إلى متوالية معقدة من الخوف. وأسوأ أو أجمل ما في الظاهرة هو أن تكون "لولبية"؛ بمعنى أنها تنشئ متوالية وشبكة معقدة من الحلقات والظواهر والنتائج الجديدة.
الغد 2017-02-04