طريق أردوغان في شمال سوريا، ليس سالكاً تماماً
تلقت الطموحات التركية في شمال سوريا صفعتين متتاليتين خلال يومين اثنين فقط: الأولى؛ عندما كشف وحدات الحماية الكردية عن قيام الولايات المتحدة بنشر مراقبين من ضباط وجنود أمريكيين في محيط منبج ... والثانية؛ عندما نجح الجيش السوري في تحقيق اختراق على محور شمال حلب الشرقي، والتقاء وحداته بوحدات الحماية الكردية، لتشكل سداً يحول دون تمدد “درع الفرات” صوب الرقة.
الرئيس التركي أعلن أن المحطة التالية لـ “درع الفرات” ستكون في منبج، أما المحطة التي تليها فستكون في الرقة ... الرجل لم يقو على إرسال قواته إلى الباب من دون ضوء روسي، والمؤكد أن لن يجرؤ على اجتياز خطوط انتشار الوحدات الكردية من دون ضوء أخضر أمريكي ... أما الصدام المباشر مع الجيش السوري، فدونه عوائق وموانع وخطوط حمراء كثيرة، يعرف السيد أردوغان أن اجتيازها سيكون ضرباً من المقامرة.
سبق لأنقرة أن بعثت بخطط عسكرية (خطتين على الأقل) للبنتاغون، تقترح فيهما دوراً أساسياً للجيش التركي وحلفائه (وحلفاء مسعود برزاني)، في تحرير الرقة ... الخطط التركية تستثني وحدات الحماية وقوات سورية الديمقراطية، بل وتتضمن “طلب الإذن” باجتياح مناطق سيطرتهما في كوباني أو تل أبيض أو غيرهما للوصول إلى الرقة ... الولايات المتحدة لم تستجب بعد للطلب التركي، ولم تعلق على الخطط، والمؤكد أنها لم تعط أنقرة أي ضوء أخضر من أي نوع.
روسيا التي مكّنت “السلطان” من قبل، من تحقيق بعضٍ من أحلامه في بسط نفوذه على شمال سوريا، وبمساحة قد تصل إلى خمسة آلاف كيلومتر مربع ... روسيا اليوم، تبدي قلقاً ظاهراً ومضمراً من ألاعيب السياسة التركية و”سياسة الرقص على جميع الحبال” التي ينتهجها الزعيم التركي، فهي تتابع تقلبات السياسة التركية واستداراتها المتلاحقة والمتسارعة، وتضع كافة أوراقها قريبة من صدرها، بانتظار معرفة على أي مرفأ سترسو سفن الرئيس التركي.
مهمة الرئيس التركي في سوريا، باتت أكثر صعوبة، ربما تكون مكاسب “درع الفرات” هي التعبير عن الحد الأقصى المتاح له بموجب التوافقات والتوازنات الدولية ... لكن من السابق لأوانه “نعي” الدور التركي المتزايد في الأزمة السورية، سيما وأننا لم نعرف بعد، على وجه الدقة، ما الذي تنوي إدارة ترامب أن تفعله، وإلى أي مدى ستذهب في تنسيقها وتعاونها مع روسيا، وكيف ستعالج الأزمة المستفحلة بين حليفين من حلفائها: تركيا والأكراد.
واشنطن، بالطبع، ليست في وارد التخلي عن تركيا، حليفها القوي في “الناتو”، والدولة الإقليمية الوازنة في المنطقة، لكنها في المقابل لن تجاري أنقرة في احلامها وأطماعها في سوريا والعراق، والمؤكد أنها لن تفعل ذلك على حساب حليف كردي موثوق، برهن أنه الطرف الوحيد في الأزمة السورية الذي يعرف ما يريد، ويستميت في الدفاع عمّا يريد ... لكن واشنطن لن تجاري كذلك، الحليف الكردي في مطالب الحد الأقصى التي تداعب مخيلته: الاستقلالية الكيانية ... كيف ستدير واشنطن هذا التناقض، وأين هي النقطة التي ستقف فيها بين الأكراد والأتراك، سؤال لم تتضح الإجابة عليه بعد.
أما روسيا، فإلى جانب ملف العلاقات الثنائية المثقل بالفرص و”المغانم” مع تركيا، فقد رغبت في أن ترى دوراً تركياً في سوريا، متساوقاً مع تطلعاتها ومتناغماً مع حساباتها في سوريا، وأهمها الحرب على داعش والإرهاب ... نجحت موسكو في دفع أنقرة لإحداث استدارة في مواقفها مستفيدة من تداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز 2016 ... لكن الحليف التركي غير موثوق، إذ بمجرد مكالمة واحدة وزيارة واحدة، الأولى مع ترامب، والثانية لمدير المخابرات المركزية، حتى بدأت أنقرة بإلحاق استدارتها الأولى باستدارة ثانية ... موسكو قلقة، وفي كل الحالات، هي أرادت تركيا إلى جانب سوريا في الحرب على الإرهاب، ولن تسمح لتركيا بأن تقاتل سوريا بدلاً عن داعش، أو تصب جام غضبها على أكراد سوريا لمحوهم عن الخريطة، فهم أيضاً أصدقاء لموسكو، وعلاقتها بهم، تاريخية.
إيران التي يسكنها إحساس بالخذلان والخديعة من الرئيس التركي بعد أن دعمته بقوة إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، تنتظر الفرص للرد على “نكرانه للجميل” الإيراني، فأركان نظامه، لا يكتفون باتهام إيران برعاية الإرهاب والتحريض على الفتنة المذهبية، بل ويطالبون بفرض عقوبات عليها، ويسعون في إنشاء أحلاف إقليمية ضدها ... إيران هذه تتحين الفرصة، لتحويل الانتصارات التركية في شمال سوريا، إلى هزائم وحرب استنزاف طويلة الأمد.
لم تغلق الأبواب بعد في وجه “السلطان”، بيد أن خياراته في سوريا، تزداد تعقيداً مع تطورات الوضع الميداني على الأرض، ومع غموض الموقف الأمريكي حيال المنطقة، ومع المزاج المتقلب للرئيس الأمريكي الجديد الذي يبدو كمن تزوج من اثنتين، فلا هو قادر على إغضاب الأتراك على حساب الكرد، ولا هو بصدد “تطليق” هؤلاء الذين أبقوا لبلاده بعضاً من نفوذ ودور في الأزمة السورية، بعد أن كادت تخرج منها بالكامل.
الدستور 2017-03-02