مرحلة انتقالية.. كيف نستوعبها؟
لم تظهر النخب السياسية والاقتصادية، بعد، استيعابا إيجابيا للتحولات الكبرى التي تغير الاتجاهات والأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بل يبدو أنها تحاول تحديها أو تجاهلها، وكأنها ليست موجودة، وفي ذلك فإننا نضيف إلى الفشل أزمات سياسية واجتماعية، ونهدر الوقت والموارد. وأسوأ من ذلك أن النخبة تنشئ، بوعي أو من دون وعي، حالة من الانقسام الاجتماعي والكراهية.
يبدأ الاستيعاب بالاعتراف والإدراك الكافي والملائم للتحولات وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وتأثيرها في المؤسسات والمجتمعات والعلاقات الناشئة أو المتوقعة بين السلطة والأسواق والمجتمعات، ثم الدخول -وبسرعة ونية حسنة- في عمليات استماع وملاحظات حرة ومبدعة واسعة للمسار المتوقع للمؤسسات والأفكار والموارد والقيم المنظمة للسياسة والاقتصاد والثقافة.
لا أحد يملك في هذه التحولات التي تقترب من كونها فوضى شاملة، الاعتقاد أنه يقدم تصورا وفهما صحيحين، ففي انقطاعها (التحولات) عن الماضي ليس ثمة معطيات كافية للتقدير والاستشراف، لكننا نملك أن نفكر ونتخيل (يتحول الخيال اليوم إلى مورد اقتصادي واجتماعي) ونقترح، ونقتبس منتجات الانشغالات الواسعة في العالم في فهم واستيعاب العصر الجديد (عصر الشبكة أو المعرفة)؛ فما يجري من فوضى وارتباك في بلادنا ليس مختلفا عما يجري في العالم حولنا. لكن الفرق يكمن في أن العالم مشغول بجدية وعمق بهما.
متوقع، بطبيعة الحال، مقاومة التغيير؛ فذلك موقف اجتماعي تاريخي. ومتوقع أيضا أن الطبقات والمصالح والمؤسسات المتضررة أو التي تشعر بالتهديد، سوف تعطل التغيير والاستيعاب. لكن الحلّ والمخرج الوحيدين هما إطلاق حالة من الجدل الحرّ الواسع لجميع الأفكار والاتجاهات، وعدم استخدام النفوذ والتأثير لمواجهة موجة مقبلة كاسحة، فذلك ينشئ الكراهية ويجعل التغيير مؤلما بدل أن يكون متدرجا وبأقل قدر من الخسائر.
في تحول العالم من الهرمية إلى الشبكية، يتغير الوعي أيضا. فلم يعد النضال والصراع، بطبيعة الحال، مستمدَّين من طبيعة الهرم وأسراره، لكنهما اليوم شبكة تتيح لكل من يملك الوصول إليها فرصة مساوية في المعرفة والتواصل والتبادل والتأثير. هكذا، لم تعد المؤسسات الإعلامية التقليدية مورداً للتحكم والتأثير والمعرفة والبلاغات والأخبار، فكل مواطن يقدر اليوم على امتلاك المعرفة وإنتاجها وبثّها وتبادلها بلا حواجز ولا حدود. في هذه المساواة في الوصول إلى الشبكة تنشأ مساواة اجتماعية وسياسية تكاد تكون مطلقة، ويدعو إلى الضحك استمرار الشعور باحتكار المعرفة ومظنة القدرة على تحديد من يعرف وماذا يجب أن يعرف.
قال جون لوك في القرن السابع عشر (كتاب الحكم المدني) إن المطبعة جعلت في مقدور جميع الناس قراءة الكتاب المقدس؛ ما يعني ببساطة أن المؤسسة الدينية تتغير تغيرا عميقا وجوهريا. هكذا نشأ الإصلاح الديني وسلسلة من التحولات السياسية الكبرى، ولم تكن الحروب والصراعات سوى محاولة يائسة لمواجهة التغير الحتمي. وبالطبع، فإن الشبكة لم تغير الطبقات والسياسات نفسها، لكنها تغير في علاقاتها وإدارة هذه العلاقات وتنظيمها. وما يجب أن تدركه السلطات والنخب المتحالفة والمهيمنة في مرحلة الشبكية أنها لم تعد قادرة على احتكار المعلومات، لقد خسرت النخبة هذا المورد، وصار مشاعاً، ويجب أن تدير علاقاتها على أساس هذه الحقيقة الجديدة. والمجتمعات يجب أن تدرك حدود هذا المورد الجديد وفرصه وتحدياته؛ هو مورد يمنحها بالتأكيد قوة جديدة، لكن ذلك لا يحدث تلقائياً. وما يمكن قوله من ملاحظة مواقع الشبكة والتواصل الاجتماعي، أنه مورد يكاد يكون مهدوراً، ولم ينشئ بعد شبكة فاعلة في التجمّع والتأثير، أو لعل المجتمعات لم تلتقط ما وصفه وليم جيمس بأنه أعظم اكتشاف، ولا يقلّ في أهميته عن الثورة العلمية، أن في مقدور الناس تغيير حياتهم من خلال تغيير مواقفهم الذهنية. لقد أنشأت الهرمية وعياً بالذات لم يعد موجوداً، ويفترض أن تنشئ الشبكية وعياً جديداً يبدو أنه لم يُدرك بعد.
الغد 2017-03-02