"الوثائق البريطانية" الجديدة
تحوّل مهم (تحدث عنه الصحفي البريطاني المشهور ديفيد هيرست) طرأ على القناعات والتوجّهات البريطانية بشأن حركات الإسلام السياسي مؤخراً، ويتمثّل بالوثيقة التي أصدرها مجلس النواب البريطاني في الأيام الماضية بعنوان "الإسلام السياسي ومراجعة الإخوان المسلمين: رد الحكومة على تقرير لجنة الشؤون الخارجية السادس".
وجاء في تقرير اللجنة الأخير ما يمثّل "استدراكاً" رسمياً من الحكومة البريطانية على "تقرير جنكينز" الذي أعده الدبلوماسي البريطاني جون جنكينز بناءً على تكليف الحكومة البريطانية، ووصل فيه إلى القول إنّ جماعة الإخوان المسلمين بمثابة "قناة إجبارية" للتطرف والإرهاب. إذ إنّ مجلس النواب البريطاني شكّل لجنة أخرى برئاسة كريسبين بلانت، رئيس لجنة الشؤون الخارجية (وتضم معه نواباً من الأحزاب الكبرى)، وقام بدوره بإعداد تقرير مناقض تماماً في أغلب مضامينه لتقرير جنكينز!
يرفض التقرير وضع أغلب قوى الإسلام السياسي في الحزمة نفسها، ويرى أنّ الأحزاب الإسلامية التي تعلن القبول بالديمقراطية والعمل السلمي تمثل جدار حماية من التطرف (وليس قناة إجبارية للإرهاب). وطالب بلوم السياسات العربية السلطوية على نزوع جماعة الإخوان المسلمين إلى السريّة. وكذلك عدم التعاون مع الانقلابات العسكرية على القيم الديمقراطية والحق في الحرية.. إلخ.
تقرير بلانت مهم في تفاصيله وإشاراته، وهو بالفعل وثيقة تاريخية. لكن ردّ الحكومة البريطانية يحمل استدراكاً واعترافاً بجزء مهم من مضامين التقرير (ما يعني التنازل عملياً عن "تقرير جنكينز")، وهو الردّ الذي نشرته لجنة الشؤون الخارجية، وفيه إقرار من الحكومة بأنّ أغلب حركات الإسلام السياسي لم تمارس العنف والإرهاب.
يمثّل "اعتراف" الحكومة البريطانية ردّاً قاسيا على أجندة محافظة عربية سعت منذ آواخر العام 2013 إلى وضع حركات الإسلام السياسي قاطبة في "سلّة" التطرف والإرهاب، وخلط الأوراق، وإدانة "الربيع العربي" بوصفه حمل تلك الحركات إلى سدّة الحكم عبر صناديق الاقتراع. وتجاوبت حكومات غربية عديدة مع هذه الدعوى، وتواطأت في أضعف الأحوال مع "الثورة المضادة". وهو ما كان سيضاعف من أخطار الثورة المضادة التي خلّفت لنا نيراناً محترقة وحروباً أهلية وفوضى سياسية وأمنية عارمة، أريد إعلامياً إلصاقها بالربيع العربي!
ذلك لا يعني –بالضرورة- أنّ ما ورد في تقرير "بلانت" كله في صالح الإسلاميين، ولا أنّ علينا القبول به كاملاً. وهناك أسئلة ما تزال جوهرية في صلب إيمان الإسلاميين بالديمقراطية والتعددية الدينية والسياسية، وبالحريات العامة والشخصية، وبموقفها من حقوق الأقليات وحقوق الإنسان والحريات الدينية؛ كل ذلك صحيح، لكنّه نسبي ومشروط بالجانب الآخر من المعادلة، أي السياسات الرسمية العربية التي تنعكس على النقاش داخل الحركات الإسلامية، وهي السياسات التي لا تقوم –في الأغلب- على اعتبارات ديمقراطية!
في هذا الصدد، كتب ناثان براون (أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، والمختص بالحركات الإسلامية) كتاباً مهمّاً، قبل أعوام، بعنوان "When Victory is not an Option" (ترجم إلى العربية بعنوان "المشاركة لا المغالبة")، قلب فيه المعادلة وأعاد صوغ الأسئلة المرتبطة بأيديولوجيا الإسلام السياسي؛ فجعل توجهات هذه الجماعات السياسية والفكرية بمثابة نتائج (متغير تابع) لسياسات الأنظمة شبه السلطوية (متغير مستقل) التي تدفع بهذه الحركات إما نحو التشدد أو الاعتدال عبر المشاركة السياسية في اللعبة الديمقراطية.
الغد 2017-03-09