شيوخ ومريدون وتعددية لافتة
وأنت تتجول في مواقع التواصل الاجتماعي، ستعثر على العجب العجاب فيما يتعلق بالمسألة الدينية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ففي حين ستجد تبجيلا استثنائيا لشيخ أو عالم أو داعية ما من قبل فريق من الناس، ستعثر على آخرين يرمونه بأبشع التهم، وصولا إلى الزندقة، مع التذكير أننا نتحدث هنا عن إطار الغالبية الإسلامية التي يمثلها أهل السنّة، ولا نشمل الفرق الإسلامية الأخرى، وأكبرها الشيعة الاثني عشرية.
وما دون الزندقة، هناك الكثير من الأوصاف، من متطرف إلى عالم سلطان، إلى قليل العلم إلى جاهل وسوى ذلك من نعوت تحط من قدر الرجل المعني، بينما تجد مريديه يتحدثون عنه بروحية التقديس في بعض الأحيان، أو الانبهار أحيان أخرى، حتى إنهم يأخذون برأيه في كل شأن، وليس الشأن الديني المباشر، أعني يأخذون منه في الشأن السياسي وشؤون المجال العام برمته، رغم ضآلة علمه على هذا الصعيد في أغلب الأحيان.
ليس هذا الأمر جديدا في واقع الحال، فهو جزء لا يتجزأ من المنظومة الدينية والاجتماعية طوال القرون. وفيما كانت المذاهب هي التعبير الأبرز عن هذه المعضلة، جاء غيابها ليزيد من حدة الخلاف، فنحن هنا لم نعد نتحدث عن أربعة أو خمسة مذاهب، أو حتى عشرة، بل نتحدث عن طائفة واسعة من العلماء الذي يلتف حول كل منهم حشد من الناس، ويأخذون عنهم الدين والفتاوى بمختلف أشكالها، مع أن قطاعا عريضا من الناس أيضا يراوحون في اختياراتهم، فيتبعون قطاعا معينا من العلماء والدعاة تبعا لميلهم الفكري. وحدث ذلك بالطبع في ظل الموجة السلفية التي همّشت المذاهب لصالح اللامذهبية، والتي أنتجت بدورها مذهبا في الظاهر، لكنها ما لبثت أن أنتجت تعددية أكبر في المجال الديني، حيث أنتجت هي ذاتها مذاهب كثيرة.
وإذا أضفنا إلى ذلك ثورة التكنولوجيا التي تتيح تواصلا أكبر بين العلماء والدعاة ومريديهم دون عوائق، وإلى جانب ذلك حرية النشر والتصريح؛ صوتا وصورة، فسنكون إزاء حالة من التعددية الاستثنائية التي لم تعرفها الأمة في أي عصر من عصورها.
في سياق البحث عن أسباب هذه الحالة الواسعة من التعددية يبرز أكثر من بعد، الأول ذو صلة بالنص الديني نفسه، والثاني ذو صلة بدور السياسة في توجيه دفة المشهد الديني، أما الثالث فهو المتعلق بالصراع الإنساني الطبيعي على المكاسب والفرار من المخاوف.
من المؤكد أن الخلاف حول تفسير النص الديني هو الأصل وليس الاستثناء في معظم القضايا، أعني الخلاف في تفسير النص المتفق على صحته، فضلا عن الخلاف حول تصحيح النصوص (الحديثية) وتضعيفها، ومن ثم الخلاف حول اختيار ما يناسب كل طرف منها، وهنا يمكن القول إن ذلك كان موجودا طوال الوقت، سواءً تعلق الخلاف بالشأن السياسي (مسألة الخروج على الحاكم الظالم مثالا)، وحيث يأتي كل طرف بنصوص تؤيده، وكذلك بوقائع تاريخية، أم تعلق بالخلاف الديني التقليدي في قضايا الفقه والاعتقاد. وهنا لا يُعتقد أن مثل هذا الخلاف سيصل إلى نتيجة في القريب، لكنه سيبدأ بالتراجع التدريجي في المستقبل في حال جرى تنقية النصوص مما علق بها لأسباب؛ بعضها سياسي وبعضها طبيعي، وذلك من خلال عرضها على القرآن الكريم والواقع وتجارب التاريخ الطويلة.
البعد الثاني، ولعله الأهم راهنا هو ما يتعلق بتأثير السياسي على المسار الديني، وذلك في “دولة حديثة” تسيطر على كل شؤون الاجتماع، وبوسعها توجيه دفة الدين في الاتجاه الذي تريد، من دون أن يعني ذلك نجاحا حاسما. وفي العقود الأخيرة رأينا كيف أثر أصحاب السلطة (والمال أيضا) على مسارات التعددية الدينية، وكان لهم دور في نشر فكر يناسب الأنظمة، وبالطبع مقابل حرب على التيارات الدينية المسيّسة، والنتيجة أن دور السلطة السياسية يبدو فاعلا، ولا يبدو أنه سيتغير ما لم تتغير هي ذاتها، إذ ستواصل الأنظمة دعم التيارات التي تواليها، مقابل العمل على تحجيم الأخرى التي تطالب بالتعددية والشراكة السياسية.
على أن الأهم من ذلك هو المتعلق بالصراع الإنساني الطبيعي، إن كان الشخصي أم الحزبي، أم عموم الصراع على المكاسب الدنيوية والفرار من المخاطر، وهو البعد الكامن في النفس الإنسانية، ولن يغادرها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي حين لا يبدو أن ثمة حلا للإشكالين الأول والثاني؛ أقله في القريب، ما لم تحصل المجتمعات العربية والإسلامية على حريتها السياسية والدينية، ويكون بوسع كل طرف أن يعلن اجتهاده دون خوف من أحد، فإن الحل المتاح هو إدراك كل طرف لحقيقة أن هذا المساحة الشاسعة من تعدد الاجتهادات لا يمكن حشرها في أي إطار، وسيكون من العبث تبسيطها بادعاء كل فريق أنه “الفرقة الناجية”، لأن ذلك سيحجِّم رحمة الله، بل لا بد من النظر إليها كشيء طبيعي، حتى لو كان بعضها موجّها من قبل دوائر السياسة، والنتيجة أن على الجميع أن يعرض نفسه ورؤاه على الناس بالوسائل المتاحة، وهم وحدهم من يحكمون على صلاحية طرحه، فيما قد يفعلون ذلك مرة، ثم يتراجعون بعد ذلك. والنتيجة أن الحرية والتعددية هي الدواء الأهم، وهي وحدها التي تكفل لكل الناس أن يعبدوا ربهم بحرية، ويختاروا من يمثلهم بحرية أيضا، ويحكموا على سلوكه وكذلك خطابه دون وصاية، ما يعني أن معركة الحرية هي الأهم. الحرية من استبداد الداخل، ومن التبعية للخارج في آن، والأخيرة لا تقل أهمية عن الأولى في واقع الحال، بل هي مرتبطة بها ارتباطا وثيقا.
الدستور 2017-03-18