أسئلة وثيقة حماس
أثارت وثيقة حماس الجديدة أسئلة كثيرة، فاق عددها جملة ما انطوت عليه هذه من اجابات قليلة، مضمرة ومبهمة، وبلبلت هذه الوثيقة اذهان مؤيدي الحركة الاسلامية، وصدمت منطق المدافعين عن خطابها المقاوم حتى الشبر الاخير، جراء ما بدا لهم كتنازلات مجانية وتفريط بالثوابت، وانحرافات عن السراط المستقيم، وتهافت عن ذلك الخطاب الذي لا يعرف المساومة حتى قيام الساعة، ناهيك عن التصالح مع الواقع الذي كانت "حماس" ترفض التعاطي معه وتتعالى عليه.
منذ ان تسرب نص هذه الوثيقة، ووضعت بنودها موضع النقاش النخبوي، قرأها البعض على انها إدراك متأخر لمتطلبات الوفاء باستحقاقات الانخراط في أوحال العمل السياسي وموبقاته اللعينة، فيما قرأها البعض الآخر على انها خطأ استراتيجي ثالث، ارتكبته الحركة المجاهدة في اطار بحثها المحموم عن مخارج ملائمة، سواء لمأزقها الذاتي المستفحل، او لتوسيع هامش المناورة الضئيل المتاح لها، وذلك عقب خطئها الاول في المشاركة بانتخابات المجلس التشريعي على ارضية اتفاق اوسلو، وخطئها الثاني في الانقلاب على النظام السياسي الفلسطيني.
إذا تم وضع ردود الفعل المستريبة بتوجه "حماس" الجديد على الرف جانباً، فإن السؤالين المفتاحين اللذين يستحقان البحث والتمحيص هما؛ اولاً ما الذي تريده حقاً الحركة القابضة على جمرات سلطة الامر الواقع في قطاع غزة، ان لم يكن التأسيس لدولة بائسة، هزيلة معزولة، جائعة ومعتمة؟ وثانياً لماذا الآن في غمرة جهود عربية فلسطينية منسقة، لإعادة بعث حل الدولتين من سباته العميق، ان لم يكن الهدف تقديم وجه يبدو اكثر اعتدالاً، ينافس منظمة التحرير على الاحقية والاهلية والمشروعية، استباقاً لاحتمال ان تمسك المنظمة بورقة اميركية رابحة؟.
ولعل السؤال الذي يتقدم غيره في خضم اثنين واربعين بنداً قوام هذه الوثيقة، هو هل ستنجح "حماس" بهذا الكلام المراوغ في تسويق نفسها كشريك مقبول لدى اللاعبين المعنيين، هؤلاء الذين لم يرحب اي منهم ولم يثن على هذه "التحول" من مبدأ تحرير كامل فلسطين الى مشروع دولة انتقالية مؤقتة على حدود حزيران 1967، دون تقديم الثمن الباهظ المعلوم سلفاً، للتماهي مع لعبة سياسية صارمة، سبق ان حددت شروط الانخراط فيها كل من؛ الرباعية الدولية والمبادرة العربية وقرارات الامم المتحدة؟ ثم هل لهذه الوثيقة أن تحسّن موقف "حماس" الاقليمي الصعب، وتساعد على رفع مكانتها الدولية؟.
كانت لافتة تلك المحاكمات التي اجراها اناس من بيئة "حماس" الفكرية والعقائدية لنص هذه الوثيقة، التي سلبت من الحركة الاصولية ميزتها النسبية، حيث بدت الوثيقة لهؤلاء المخذولين كخطوة اولى على الطريق الذي سارت عليه منظمة التحرير في السبعينيات، فمنهم من قال انها خفّضت سقف المطالبات التاريخية المحقة دون ثمن وبلا مقابل، ومنهم من اتهم الحركة بالاستجابة لإغراءات توني بلير وأضاليله، ومنهم من ذهب الى ان الوثيقة لم تشر الى جماعة الاخوان المسلمين ولم تفك ارتباطاتها بهم بصراحة، كما فعل اخوان الاردن مثلاً، ناهيك عمن طالب "حماس" بالاعتذار عما وقع من تنكيل وتقتيل وترويع وتخوين وتجويع ودمار لسكان غزة.
وهناك ايضاً من ظل يخامره الشك فيما اذا كانت "حماس" بوثيقتها هذه، تستطيع ان تركب على ظهر حصانين معاً؛ الاول ميثاق الحركة الاساسي الذي نص -على سبيل المثال- على رفض الانضمام الى منظمة التحرير كونها منظمة علمانية، وخلط بين اليهود والصهيونية، وهو ما جلب لحماس تهمة معاداة السامية، وبين "وثيقة" سياسية تتجاور مع ذلك الميثاق، وتعيش الى جانبه، وهو امر لم تسلكه منظمة او حزب او حركة سياسية من قبل، ولا يوجد نظير له في علوم السياسة المعاصرة، الامر الذي سيبقي هذا الميثاق سلاحاً للابتزاز في ايدي اعداء الحركة الاسلامية.
اذا كان هدف حماس الاول من هذه الوثيقة ايجاد المناخات المواتية، لتحويل الانقسام الراهن الى انفصال دائم، وفق ما تشير اليه وقائع حظر فتح في غزة واعتقال كوادرها، فإن اول الشروط القهرية لاجتياز معبر رفح، متوقف على مدى استجابة القاهرة وكلمتها الفاصلة ازاء هذا المنحى الملتبس من جانب "حماس"، حيث سيتوقف على هذه الاستجابة المشكوك فيها، مصير هذه الاستدارة غير المكتملة، أو قل هذه الدعسة الناقصة.
الغد 2017-05-05