تساؤلات عن عمل الجاهات..!
لا تخلو الحياة من التعرض لمشكلات قد تنطوي على شكل من الإيذاء، مثل المشاجرات أو حوادث الدهس وما شابه. والدارج في هذه الحالات وأشباهها استخدام الجاهات والعطوات كجزء من إعادة ترتيب العلاقات بين طرفي الحادثة، إلى جانب المحاكم والقضاء الرسمي. وكان العرف أن يتصدر هذه الجاهات رجال أكفاء معروفون طيبو السمعة ويحظون بالصدقية والاحترام، وليس لهم مطمع ولا مطلب سوى الإصلاح وتهدئة النفوس وحفظ الحقوق.
لكن اتساع المجتمع واختلاط الحابل والنابل، سمح لبعض المتطفلين على ما يبدو بعرض أنفسهم على أنهم مصلحون و"وجوه". ويتسلح هؤلاء بمظاهر معينة، ويحفظون بعض الكليشيهات، ويتدخلون في الخلافات، فلا يفعلون سوى أن يزيدوا الأمور تعقيداً. وبدلاً من تصفية قلوب المتخاصمين، يوغرون الصدور ويطيلون أمد الخلاف لمختلف الأسباب، ومنها الارتزاق على حساب أحد الطرفين أو كليهما، باستغلال قاعدة "صاحب الحاجة أرعن".
نسمع كثيراً من القصص عن حالات من هذا القبيل. وقد صادفتُ على الأقل حالتين عرفت عن تطوراتهما. وفي الحالة الأولى، لجأ أناس تعرضوا لشكوى كيدية على أساس تقرير طبي مشكوك فيه عن إصابة بسيطة بعد مشاجرة كلامية في حقيقتها. وبحث الغارمون عن شخص يقود جاهة، فدلوهم على "شيخ". وأرسلوه على رأس جاهتهم بمهمة إبرام عطوة معينة موصوفة، مشفوعة بوصية من متصرف المنطقة له بإعطاء هذا النوع بالعطوة فقط، أو الانسحاب. لكنه "تصرف"، فأعطى عطوة أخرى. وترتب على ذلك أن قام الطرف المدعي بإدخال "المصاب" مستشفى خاصاً بعد أن كان يمارس حياته كالمعتاد. وفي النهاية تكبد الطرف الأول مبالغ بالآلاف لدفع المصاريف المبالغ فيها، من فنجان القهوة حتى بنزين السيارات. ثم لتحكم المحكمة بعد ذلك بتبرئة الطرف الأول تماماً في القضية من الأساس.
الحادثة الثانية مشاجرة عادية، أصيب فيها أحد الطرفين بضرر خفيف. وبعد الانفعالات الأولى والاطمئنان على وضع المتضرر، قرر الطرفان الصلح. لكن "الوجوه" الذين حضروا عقَّدوا المسألة، وبدل أن تنتهي الجاهة بالصلح، أصبحت المشكلة أعقد وأطول وعرضة للاجتهادات وكثرة المُداخلين. وأصبح وجهاء كل طرف يتهمون جماعة الآخر بأنهم مزورون، وطلابو مال، حتى انتهت القصة أخيراً بالصلح الذي كان يمكن أن تنتهي به نفسه من البداية. وكالعادة، تضاعفت الخسائر في الجهد والقلق والمال.
وفي بعض الأحيان، يخدم مثل هؤلاء "المصلحين" اتجاهات لدى بعض الناس الجشعين الذين يستغلون حادثة صغيرة قد يتعرضون لها للكسب والمتاجرة. وعلى ما يبدو قلّ الطيبون الذين إذا وجدوا الضرر صغيراً سامحوا عن طيب خاطر، وكثر المتاجرون، حتى بآلامهم. وقد سمعت من أحد القضاة أن أطرافاً في نزاعات يصابون إصابة خفيفة، ويحصلون على تعهد بدفع مصاريف العلاج من الطرف الثاني، بكفالة "الوجوه"، فيفعلون ما يفعل الذي تصدم طرف سيارته فيطلب إصلاح الأول والتالي وأي عيب سابق فيها على حسابك.
أتصور أن الكثير من القضايا يُمكن أن توكل ببساطة إلى القضاء الرسمي فقط ليفصل فيها. وإذا كانت معظم مجتمعات العالم تستطيع تدبر أمر حل مشاكلها في المحاكم وحسب القوانين، حتى في حوادث القتل نفسها، فإن القانون يستطيع أن يقدم نفسه كبديل وحيد ومقنع لحفظ الحقوق وتحقيق العدالة. وإذا لم تكن هناك النية الواجبة لتخليص المجتمع من الاعتقاد بحق الثأر والذهاب تدريجياً نحو سيادة قانون الدولة على الأقل، يجب أن تكون هناك آليات لضبط الدخلاء الذين ينزعون الأصالة عن الأعراف والممارسات، ويتخذون لأنفسهم "سلطة" كانت مشروطة ومعروفة لوسطاء مكرّمين مخلصين لعقد الصلح والسلم وتهدئة الخواطر فحسب.
ربما لا يجوز أن يقوم المدنيون بتطبيق قانون خاص بهم بحيث يمكن أن يتعارض حكمهم جذرياً مع أحكام القانون الرسمي. وإذا حدث ذلك –مثل المثال الأول المذكور- فإن هناك خللاً في تطبيق الوساطات المدنية لحل النزاعات بحيث قد يتعرض الناس للظلم نتيجة قرار يتخذه ممثلهم المختار، عن جهل أو قصد. وإذا كانت هناك جهات رسمية مسؤولة عن ضبط عمل هؤلاء الذين ينشطون في الوساطات من هذا النوع، فيجب إعلام المواطنين بكيفيات الوصول إليهم وتمييزهم، والعثور على طريقة لإصلاح الأوضاع إذا تعقدت مشاكلهم بسبب "غلطة شيخ".
الغد 2017-05-11