هل تعرف ماذا يعني «الموت العابث»؟
الاردنيون يغرقون يوميا في متابعة وقائع وحوداث لامتناهية تفضح خزانا لا ينفذ من العنف، هكذا يمكن وصف ما يقع من حوادث عنف عشائري وعائلي وجرائم قتل مروعة ووقائع انتحار جماعي وتسمم غذائي وحوادث سير تحصد مئات الارواح البريئة، الواقع في الاردن «مليودرامي» ربما أكثر من الدراما نفسها.
الموت سهل ورخيص، ولكن ما هو مدهش أن الصدفة باتت ماكينة منتجة للموت، وضحايا الموت بكل اصنافه لم يعودوا يثيرون اي مشاعر عامة على اختلافها، ضحايا الطريق الصحراوي وما يصنع الطريق من مأساة مستمرة في حوادث تنتج الموت وتزهق الارواح ولعنات تتحول الى ادعية لكل من يعبر الطريق باتجاه جنوب المملكة في رحلتي الذهاب والاياب.
«موت عابث» يخطف ارواحا برئية، والمجتمع يكتفي باعلان الندب والنعي، وعلى الاقل يضمنون تفريغا لمشاعرهم المجروحة، وربما هو تعويض عن محاسبة مستحيلة في تتبع المسؤول الحقيقي عن الموت العابث، وبمعنى اصبح الموت على قاعدة مت في الدنيا بهذه الطرق العابثة ضحية للاهمال والتقصير والفساد، واحصد الجزاء يوم القيامة، هكذا نضمد الجراح بمعادلة «غيبية»، هي صفقة لها شعبية كبيرة وتريح كل الاطراف وتعطل السؤال في العلاقة ما بين الناس والدولة.
يبدو أنه السر الحقيقي وراء تضميد الموت وتسكينه دون اثارة أي اسئلة عمن يقف وراءه من اهمال وتقصير وفساد، ضحايا حروب الحياة اليومية، بعد موتى حوداث السير يدخل على الخط موتى الانتحار الجماعي والعنف الجماعي والاخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية والخاصة وضحايا الفساد الغذائي.
ضحايا يتساقطون في مواقع حروب يومية، بينما ترفع الحكومة من جاهزيتها في تطبيق سياسات اقتصادية من فرض لضرائب مضاعفة ورفع جنوني ولا محدود للاسعار. لم يعد المشهد طوابير المواطنين امام المخابز خافيا، ولم يعد مشهد مواطنين يبحثون عن خبز مجاني، ولا من ينبشون في الحاويات بحثا عن لقمة طعام تالف تسد رمق جوعهم العصي على الانفكاك.
للفقر رائحة في بلادنا، صور الفقر تتحول الى كاريكاتور، كما حدث مع قصة موظف حكومي يتحدث عن كيفية انفاق راتبه الشهري، وأنه يدفع 70٪ من اجره لفواتير الكهرباء والماء والاتصالات والباقي قد يذهب للمواصلات والنقل، فعلا هذا ما يقع لـ80٪ من الاردنيين موظفي حكومة وقطاع خاص، لا يعرف غير الله كيف يقضون امور عيشهم.
كم هو مدهش الحديث عن الفقر، وكم هو فاضح، ويخرج عليك في موازاة كل ذلك منظرون للاصلاح الاقتصادي والسياسي ودولة القانون والعدالة والمساواة والحرية، والاردنيون يهيجون بمتابعة اخبار فاضحة لرب اسرة يبيع اعضاء اولاده، وعصابات تنشط تحت الارض تشغل الاطفال وتبيعهم، ظاهرة لربما لا يعترف بها رسميا ولكنها واقعية.
جيل من الاطفال فشل المجتمع باستقباله، وخرجوا ليعيشوا في الشوارع، وهم باختصار اطفال الشوارع، هؤلاء نموا وكبروا وتربوا في الشوارع واصبحوا مراهقين وشبابا، مجموعات تبني علاقات اجتماعية بقيم واخلاق خارجة عن ما هو سائد ومستقر في المجتمع العام، اولاد بلا اباء، وعلاقات جنسية تزدهر بالاغتصاب والمتعة، وعلانية لفوضى بالاخلاق والقيم تنتج «الدعارة بشبكاتها المنظمة».
سكان الشوارع يزدادون ويصلون الى ارقام مذهلة، والظاهرة تتعقد رغم أنها تحظى بعناية من وزارة التنمية الاجتماعية ومبادرات اهلية تقودها سيدات من المجتمع «العماني المخلمي»، ولكن يبدو أن رقة القائمين على مبادرات انقاذ اطفال الشوارع لم تعد كافية ولا مسيطرة على ما يجري تحت الارض وفي باطن المجتمع، فملاحقة الظاهرة بالنفاق الاجتماعي ودموع التماسيح، وهم في الحقيقة ينظرون لاولئك المشردين على انهم زوائد بشرية في نسيج المجتمع من الواجب التخلص منهم.
ولم يعد امام مئات من الاردنيين سنويا الا مواجهة الحياة بالانتحار، وخبر الانتحار لم يعد لافتا وصادما ومحصورا بطبقة اجتماعية مصابة بمشاعر الاكتئاب، بل ان ثمة الانفلات بحوداث الانتحار يمكن التعبير عنه باختصار انه خوف بدائي مدفون ومكبوت لاحساس استشعاري بالفقر المقبل وما هو قادم من ضنك وقسوة وضعف في مواجهة الحياة.
المنتحرون ومن سينتحرون هم مهزومون امام مواجهة الحياة، رغبة انسانية بالخلاص النهائي، ولربما أن أكثر ما تشير اليه حوداث الانتحار فان المجتمع ينتج من احشائه خلاصا ذاتيا، هو جنون ولكنه يثير بفضائحه طوفان الفقر والخوف من المستقبل.
الدستور - الاثنين 15/5/2017