من معجزات الإسلام
أقرّ محمد عابد الجابري, في كتابه «تكوين العقل العربي» بأن المسلمين ابتكروا «علم اصول الفقه» لأول مرة في التاريخ. وأنه علم «لا نجد له نظيراً عند اليونان والرومان في الغرب, ولا عند البابليين والصينيين والهنود والفرس والمصريين في الشرق, ولا في اي مكان آخر».
ويذهب الامام مصطفى عبدالرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية الى أن المنطق الاسلامي الفريد انما يلتمس في كتب اصول الفقه واصول الدين (علم الكلام).
ومن يقرأ: «الكافية في الجدل» للإمام الجويني, ولا سيما مبحث «الحد» أو يقرأ مقدمة: «المستصفى» للإمام الغزالي, ير الى سبق المسلمين في أدق مباحث النظر, والى ما توافر لديهم من شروط التعليل والتحليل والتأول.
ثمة اذن حقل معرفي اسلامي ازدرعه اسلافنا العظام في قنن عالية لا يملك توقّلها او الصعود اليها الا من استعد لذلك معرفياً, أو من امتلك القدرة على التحقق والتجرّد, ونذر نفسه لمواجهة عقلية صارمة تستنفد الجهود والاعمار.
وعلى أن من تصدوا لهذه المهمة في تاريخ الاسلام قلائل, قياساً على من اشتغل بالأدب والتأريخ (بالهمز) وسائر ألوان الفاعلية الحضارية, إلا أنهم تركوا من المصنفات ما يعتبر كنزاً مذخوراً من كنور الانسانية. وتلك معجزة من معجزات الاسلام تفوق في موازين التقييم ما يسمونه «المعجزة الاغريقية» تلك التي لو جمعت اعمال اعلامها مثل طاليس وسقراط وافلاطون وارسطو, لما رجحت كمّاً وكيفاً بأعمال اصولي واحد من اصوليي الاسلام, مثل القاضي عبدالجبار المعتزلي في موسوعته (المغني) وفي سائر كتبه التي بلغ مجموعها اربعمئة ألف ورقة من نفائس الفكر.
واذا كان لأفلاطون في السياسة «جمهوريته» ولأرسطو كتاب «السياسة» فإن للقاضي عبدالجبار المجلدين الاخيرين من موسوعته سابقة الذكر «في الامامة» كما ان للماوردي وللفراء وللفارابي ولابن تيمية وللطرطوش ولابن الطقطقا ولكثير غيرهم مباحث في السياسة هي ما استنقذه المحققون من أيدي البلى من المخطوطات التي تبلغ الملايين عدداً..
فاذا زدنا على ذلك ما تجلّى في كتب التشريع الاسلامي من سعة أبواب الاجتهاد ومن طرائقه, ثم اضفنا الى ذلك مباحث البيان واللغة والنقد, ثم نظرنا نظرة موضوعية الى كل ذلك مجتمعاً, فإن مما نخلص اليه بالضرورة ان جيلنا نحن عرب ومسلمي اليوم هو اكثر اجيال هذه الامة تقصيراً في حق حضارته وخذلاناً لها. في الوقت الذي يتهافت فيه فتات موائد الغربيين ويلهث في آثارهم..
تناقض عجيب يفسّره سيطرة الغرب على سياساتنا, وعلى مناهجنا التعليمية, وعلى مصادر تشكيل الذائقة الادبية والجمالية فينا, وغياب أهل الاصلاح وعلو الظالمين وتمكن المفسدين.
على أن مما نطمئن اليه ان ما صلح به امر امتنا لأول انبعاثها تحت راية القرآن ما يزال قائماً يدعونا ليل نهار الى ان نتمسّك به..
ومن سلك الجدد.. أمن العثار.
الراي 2017-05-31