"أصحاب الغبطة" الذين يبيعون فلسطين..!
في رواية حرب سوفياتية، يقول قائد الجبهة لآمر انسحب من موقعه ولم يصمد أمام الألمان: "لقد سلمتَ موسكو". وقد يبدو هذا الحُكم من القائد منطوياً على مبالغة: كيف يمكن أن يؤثر تسليم قطاع صغير يحرسه فصيل على مصير الحرب؟ لكنه يفعل. فلو تخلى آمر وآخر عن حصصهما الصغيرة من الجبهة وفتحا للعدو الطريق، ستسقط موسكو.
العبارة نفسها تصح على كل من يبيع أو يتنازل عن شيء من فلسطين للعدو: "لقد سلمتَ فلسطين والفلسطينيين". فشبر وشبر يساويان قرية. وقرية وقرية تساويان وطناً. وللأسف، لم يعدم الفلسطينيون التفاح الفاسد ممن باعوا ممتلكاتهم للعدو، أو تنازلوا من موقع القدرة عن أجزاء من الوطن، جشعاً أو طلباً لسلطة. وفي الحقيقة، لا ينطبق مبدأ حرية الفرد في التصرف بما تحت يده على بلد مستهدف بوضوح مثل فلسطين. وسيعني تمليك العدو قطعاً من جسد البلد بتوقيع أصحابها منحه الشرعية الغالية، على حساب الوجود الفلسطيني نفسه. وسيكون التفريط بأي جزء تحت أي ولاية خيانة بالتعريف، وتسليماً لبلد وشعب.
في الأيام الأخيرة، طفت على السطح قصة صفقة بيع سرية لأملاك فلسطينية، أبرمتها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية مع شركة يهودية تدعى "نايوت" ترأسها عائلة بن ديفيد، والتي تقضي ببيع الكنيسة حقوقها في ملكية أراضٍ غرب القدس. والمسؤول عن إبرام الصفقة، هو بطريرك طائفة الروم الأرثوذكس في القدس، كيريوس ثيوفيلوس الثالث. وبموجب الصفقة، "باعت الكنيسة ما يقرب من 500 دونم من أراضي غرب القدس، ونحو 1200 وحدة سكنية، وممتلكات أخرى تابعة لها، للشركة "الإسرائيلية" سراً على شكل عقود إيجار"، كما ذكر موقع "الخليج أونلاين".
وحسب الموقع، فإن "الصفقة... تأتي بعد حادثة مشابهة باع خلالها ... ثيوفيلوس، ملكية أرض قيساريا بالكامل (طابو)، قبل عامين، بما تحويه من معالم أثرية وكنوز تاريخية. ويعقد ثيوفيلوس تباعاً، منذ تنصيبه بطريركاً، صفقات بيع للأملاك والوقف الأرثوذكسي في فلسطين المحتلة، كان آخرها صفقة أرض قيساريا التي تبلغ مساحتها 834 دونماً مقابل مليون دولار، وذلك بعد صفقة سوق الدير المركزي بجانب دوار الساعة في يافا".
بالنسبة للفلسطينيين، يساوي بيع أي أوقاف كنسية للعدو بالضبط بيع أجزاء من المسجد الأقصى نفسه. فهذه المواقع ملك تاريخي للأجيال الفلسطينية من كل طائفة ودين، ومكونات عضوية لفلسطين الوطن. وإذا كانت الكنيسة في اليونان قد عينت شخصاً ليكون ولياً على موقع فلسطيني مقدس، فإن ذلك لا يعطيه الحق في بيعه لأعداء الفلسطينيين بأي ذريعة أو بدعوى الولاية الدينية. وفي الحقيقة، تصرف ثيوفيلوس هذا فيما لا يملك لمن لا يستحق، على طريقة بلفور.
كان تبرير البطريركية للصفقة عاراً وأقبح من الذنب نفسه. فحسب تقرير نشرته "الغد" قبل أيام، اعتبرت البطريركية أنها "لم تقم ببيع أراض أو عقارات كانت بحوزتها أو تحت تصرفها في الأراضي المحتلة... وأن هذه الأراضي أُخِذت من قبل إسرائيل من العام 1951، وكل ما قامت به البطريركية اليوم هو إنقاذ حقها المالي للحفاظ على وجودها... وأملاكها في مناطق 67".
إذا كان منطق البطريركية صحيحاً، فإنه يكون مشروعاً لكل صاحب بيت أو أرض في فلسطين 48 أن يبيع أرضه للاحتلال ومستوطنيه بذريعة تحسين معيشته والحفاظ على وجوده، بما أن الأرض "راحت وراحت"، كما قد يُقال. أما فكرة أن الوقف الكنسي يبيح للاهوتيين التصرف فيه، فإن ذلك سيعني أن للفاتيكان، أعلى سلطة مسيحية، حق بيع كنائس المهد والقيامة وأي كنائس في أي أرض ولمن يشاء. وهذا غير منطقي ولا يمكن تصوره. ثم، لماذا يدفع الصهاينة المحتلون ثمن شيء بحوزتهم أصلاً، لولا أن الشراء الرسمي يمنحه الشرعية التي لا تقدر بثمن؟
قبل ثيوفيلوس -أو إيليا بن بنايوتس يانوبولس- المولود في اليونان، قام سلفه ومواطنه، البطريرك إيرنايوس سكوبليتيس، المولود في اليونان أيضاً، بعمل الشيء نفسه. ففي العام 2005، تبين أن سكوبليتيس باع عقارات في القدس الشرقية لكنيسة الروم الأرثوذكس لجهات يهودية.
كأنما لا ينقص الفلسطينيين نكبة سوى أن يقوم بطاركة اليونان، الذين لا يصلهم بالأرض تاريخ ولا حنين، ببيع فلسطين أيضاً. وكأنما خلا بلد المسيح من رجال الدين الوطنيين، ليوضع مصيره في يد الغرباء!
الغد 2017-07-06