تماما كما حصل لغيرنا
من المفارقات ان ما يتغلغل داخل معظم اقطارنا العربية من احداث جاء متزامناً مع مرور نحو قرن على الحرب العالمية الاولى (اندلعت في 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر من عام 1918)، ولهذه الحرب –بالطبع- كوارثها، سواء بالنسبة لاوروبا والعالم او بالنسبة لعالمنا العربي والاسلامي،اذ قتل فيها نحو 10 ملايين شخص وجرح 20 مليونا، وزالت فيها خمس امبراطوريات كبرى هي الروسية والالمانية والنمساوية والعثمانية والمجرية، وظهرت دول وايدولوجيات جديدة بدأت صراعاتها حتى انفجرت في الحرب العالمية الثانية ثم امتدت على شكل حرب باردة، وما تزال، لكن ما يهمنا هنا انها اعادت ترسيم خرائطنا من جديد سواء من خلال سايكس بيكو او سان ريمو وصولا الى عصر “الاستعمار” الذي زرع وسط منطقتنا ما يلزم من “قنابل” قابلة للتفجير ابتداء من “الحدود” الى “النخب” وصولاً الى الصراع على “الهويات “والنفط” وامن اسرائيل ايضاً.
على انقاض “الارث” الذي خلفته الحرب الاولى تشكلت بدايات “الوعي” العربي على الذات وعلى الآخر ايضاً، حيث سقوط الخلافة العثمانية، واعادة اقتسام المنطقة بين المنتصرين، وبروز حركات التحرر من الاستعمار، وهذه الاخيرة افضت الى انطلاق مركب “الدولة الوطنية”، لكنها في الحقيقة لم تتمكن من اقامة “الدولة” بالمفهوم الصحيح،وانما افرزت “سلطة” نجحت في بناء “هياكل” للدولة،ثم انقلبت عليها واختزلتها في ممارسة الادارة والحكم من خلال وسائل متعددة ترواحت بين القهر والاستبداد....أو الانقلاب وتدوير “النخب”..فيما ظلت القضية الفلسطينية “الرافعة “ الاساسية لحشد الجماهير ودفعهم الى القبول بالواقع كما هو دون تغيير.
لم يكن المواطن العربي يتصور ان تحرره من ( الاحتلال الاجنبي) سيدخله من جديد في ظل ( الاحتلال الوطني)، كما ان ابتلاعه لكل الهزائم و الخيبات و المشروعات الفاشلة، واحتماله ( لسطوة) الاستبداد و الفساد ، لم يتحول رغم كل الممارسات التي قامت بها وسائل السلطة من الاعلام والتعليم...إلخ، الى عملية هضم، على العكس من ذلك تماما، لقدتراكمت في ذاكرة الانسان العربي على امتداد نحو (100) سنة من انهيار الخلافة العثمانية، واكثر من نصف قرن من حركة التحرر ضد الاجنبي ، صور هذا الفشل و الاحباط ، وظلت تطارده آمال دفينة بالتحرر والاستقلال و الوحدة....ناهيك عن اقامة الدولة الديمقراطية الحقيقية والتصالح مع العصر على أساس الشراكة الانسانية واستعادة الكرامة والحرية، كما فعل الآخرون في هذا العالم الذي خرج من حربين مدمرتين ثم اهتدى الى سكة السلامة.
لكي نفهم ماجرى في عالمنا العربي منذ اكثر من (3) سنوات الى الآن ( وربما لسنوات مقبلة) لابدّ ان نعترف بأن كل محاولات ( الشطب) التي تعرضت لها الذاكرة العربية لم تنجح في اقناع الانسان العربي بالاستسلام للأقدار السياسية التي حاولت أن تشل حركته وتكتم صوته، فبعد مئة عام على ( حالة) النهب والتقسيم والانقضاض التي تعرض لها، قرر - فجأة- ان يتحرك و ينتفض ويستجمع كل ما في ذاكرته من صور وأزمات لتغيير ( الصورة)... صحيح ان هذ القرار لم يكن ناضجا بما يكفي، لأسباب مختلفة بعضها يتعلق بالمجتمعات العربية التي لم تتمكن من انتزاع استقلالها واخرى تتعلق ( بالصراع) على المنطقة نظرا لاهميتها، فيما السبب الاساس يتعلق بغياب الدولة بمفهومها الحقيقي مقابل سطوة السلطة التي تمكنت من بسط سيطرتها على المجال العام كله، لكن الصحيح ايضا هو ان مجرد اشهار ( التمرد) على الواقع، والاصرار على تغييره، ليس الا خطوة في الطريق الطويل نحو ( تطهير) آثار العدوان الذي بدأ منذ(100) عام، حين انطلقت شرارة الحرب العالمية الاولى وسقطت الخلافة وفرض (سايكس بيكو) على أمتنا.... وهي خطوة لن تسلم من العرقلة ولن يكون طريقها ممهدا بالورود ... وانما بالدماء التي ستسيل على تخوم صراعات الدين والمذهب والطائفة.... تماما كما حصل لغيرنا، ولهذا اقتضى الحذر والانتباه والامل أيضا.
الدستور 2017-07-07