إقالة الشهداء من مناصبهم الفخرية!
الاقتتال الدموي بين الأخوة على امتداد الساحات العربية والإسلامية يدفع المتأمل إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات والمصطلحات، خاصة تلك التي تحتل مساحة واسعة من وجداننا الجمعي، فالشهيد مثلا الذي لم يكن لدى كثير منا أي اختلاف على كونه شهيدا، أصبح لزاما علينا أن نتريث قبل خلع هذا اللقب عليه، رغم أن هذه المراجعة النقدية كان يجب أن تتم قبل هذا الوقت بكثير، فالشهيد أصلا لقب رباني يختص بمنحه رب العباد دون أن ينازعه فيه أحد كونه تعالى هو من يختار منا الشهداء (تلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) لكننا توسعنا في هذا الأمر امتثالا لفوضى المصطلح المسيطرة على مشهدنا المعاصر بتجلياته كافة، بعد أن اختلطت دماء القتلى الظالمين بالمظلومين، والمعتدين بالمُعتدى عليهم، أصبح لزاما علينا أن نُقيل الشهداء من «مناصبهم» الفخرية كشهداء ونوكل أمرهم إلى الله جلت قدرته، ليصنفهم كما يشاء!
مراجعة لقب «شهيد» تفتح الشهية لمراجعات أكثر شمولا وعمقا، خاصة وأننا نعيش مرحلة تخبط فكري آنتجت حالة هلامية من التخبط السياسي الاقتصادي والاجتماعي والأيدولوجي، حتى أن البعض يطالب بين الحين والآخر بمراجعة نقدية لتاريخنا الإسلامي ويتعدى بعض آخر الأمر بقراءة نقدية للاسلام ذاته، ليست منقطعة طبعا عن استنباط واستنطاق القراءات الفقهية عن أصولها، ولكن بذهنية منفتحة تسمح بالإبحار داخل النص، ليس بهدف تفجيره أو الانقلاب عليه، بل بقصد الوصول إلى فهم يعتبره كثيرون ثوريا، قد يزيح بعض ما استقر من مفاهيم حول عدد القضايا الجدلية التي شغلت بال المسلمين ومنتقديهم على مر العصور، ومن ذلك ما يتعلق بالمرأة من حيث إباحة ضربها من قبل زوجها إذا نشزت، وقضية مساواتها بالرجل وحجابها وحدوده وماهيته واختلاطها بالرجل، ومن ذلك أيضا مدى ملاءمة نظرية الخلافة الإسلامية للعصر الحاضر على خلفية تبني بعض الحركات الإسلامية لوجهة نظر تطالب بإحياء هذه الخلافة، علما بأنها لم تستمر على منهاج النبوة غير سنوات قليلة جدا ثم ما لبث أن أكلها المُلك العضوض الذي تمدد على معظم حقب تاريخ الأمة!
القراءة النقدية للتاريخ مع كل ما لحق به من روايات متعددة حسب انتماء القارىء المذهبي والعرقي، باتت أكثر من ضرورية لحسم كثير من نقاط الخلاف، والوصول إلى رؤية أقرب إلى أن تكون مشتركة بين إسلاميي هذا العصر، تمهيدا لإيجاد آليات توحد بين الاجتهادات السياسية التي مزقت الأفراد والجماعات وأفضت إلى حروب وصراعات لم تزل تهدر مزيدا من دماء الأبرياء في غير بقعة من بلادنا، وهي على قدر من الحُمى والشدة جعلنا نقول باطمئنان أن بأسنا بيننا أكثر من شديد، ولو قيض لنا في هذا النص السريع أن نستعرض كل القنابل الموقوتة والصراعات النائمة في أحضاننا شعوبا وقبائل (لا دول!)، لعرفنا مدى حاجتنا لتلك القراءة النقدية، فالسنة في حالة صراع مع الشيعة، والسلفيون مع من يسمونهم إصلاحيين أو معتدلين، والمحافظون مع المجددين، والمتدينون مع الأقل تدينا، وثمة خيوط وخطوط وشكوك بالغة القوة تفصل بين الأعراق حتى في البلد الواحد، نحن في حالة شرذمة غير مسبوقة تستدعي ليس إعادة النظر في لقب «شهيد» فحسب، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى أهمية تعريف من هو المسلم، بعد أن استبدت بنا فوضى فتاوى التكفير والتفسيق والزندقة والمروق!
الدستور 2017-07-07