الجاذبية للتضليل
في الدراسات الثقافية تم تقسيم العالم الى تسع مناطق ثقافية وفق اللغات والاديان وانماط التعبيرات الثقافية، وعلى خلفية محددات العولمة الثقافية والاتصالية السائدة فإنه لا يمكن الحديث عن اي ظاهرة إعلامية في سياق وطني بعينه، فالاتصال والتعبيرات الثقافية والسياسة المعاصرة لا تعترف بالحدود السياسية والطبيعية، ولكنْ ثمة تفاوت بين بيئة ثقافية واخرى، وهذا ما يحدث في حجم جاذبية المجتمعات العربية لصناعة التضليل المعاصرة والتي تتفوق على مجتمعات عديدة أخرى، الامر الذي يعود لاسباب تاريخية وثقافية ترتبط بالأنماط الثقافية التقليدية الموروثة ونظم التعليم والاتصال السائدة وحجم التناقضات في الحياة السياسية والاجتماعية.
المجتمعات الحائرة والانتقالية عادة ما تكون بيئة خصبة لصناعة التضليل، في الوقت الذي نجدها الاكثر استهلاكا لمنتجات التكنولوجيا الاتصالية وربما الاكثر استهلاكا وانتاجا للمحتوى الرديء حيث تضاعف المحتوى العربي على الشبكة خلال نحو خمسة اعوام أكثر من ست مرات مملوءة بالرداءة.
تزداد قوة التضليل بفعل قود دفع التكنولوجيا وجاذبية السوق واستعداد الجماهير، وبينما يسود في البيئة الإعلامية التقليدية الجدل حول دور القوانين في تنظيم العمل الإعلامي فإن البيئة الرقمية غير صديقة للتنظيم القانوني ولا حتى التنظيم الذاتي، فطبيعة البيئة الرقمية يصعب ان تخضع للقوانين الرسمية، وإن خضعت في بعض الدول فان طبيعة هذه التكنولوجيا وعالمية الشبكة ايضا ستفلت قريبا من هذه الأشكال التنظيمية كما أنها ليست على استعداد للتنظيم الذاتي ومن خلال مواثيق ومبادئ أخلاقية نتيجة كثرة الفاعلين وتعددهم وتنوعهم وتناقض مصالحهم وعدم القدرة على حصرهم واداراتهم.
ان معركة كبرى تدار رحاها اليوم وتعصف حتى بفكرة حرية الإعلام والحق بالاتصال والمعرفة النزيهة، ونلاحظ في هذا الوقت ماذا يحدث في أعرق الديمقراطيات وكيف تغوي التكنولوجيا الجديدة السياسيين لتغيير قواعد اللعبة وكيف تستخدم المنصات الرقمية الفردية في عناد وسائل الإعلام المهنية وكيف تساق المجتمعات لجاذبية التضليل وسط سيل جارف من تدفق المعلومات والأخبار الى الوقت الذي يفقد الفرد القدرة على التمييز ونفتقد ما كنا نسميها الحواس والقدرات الانتقائية لدى الجمهور.
الجمهور ضحية للطريقة التي يستخدم بها السياسيون والناشطون والمؤسسات الوسائل الجديدة وسط تعدد وتنوع الفاعلين في البيئة الإعلامية الجديدة لحد لا يمكن حصرهم او تحديدهم، علاوة على القدرة على اخفاء الهويات وتبديلها وتزييفها ثم قوة الاتجاه السائد الذي قد يصنع بسهولة (نحن نصنع الأدوات والأدوات فيما بعد تصنعنا وربما تتحكم بنا).
لعلها التخمة بالاخبار والتحليلات وما قاده التدفق الهائل من معلومات وأكاذيب على صفحات شبكات الإعلام الاجتماعي وغيرها من منصات جديدة وقديمة وباتت تشكل هذا الوعي الزائف لدى الناس.
حالة استقطاب تقود إلى الفجيعة على شبكات التواصل الاجتماعي العربية، وحالة أخرى من الانقسام بأقلام الكتاب يندر فيها وجود اصوات مستقلة، وثالثة على شاشات برامج التوك شو، لا تتوقف في كيل الاتهامات ولا يتوقف الحديث عن المؤامراة والمخططات، ولا يتوقف التنابز بأقبح الأوصاف ولا يتوقف الاتهام بالرشى السياسية وبالأقلام والأفواه المأجورة، الفاجعة الكبرى إذا ما كشف بعد حين أن كل هذه السوءات هي الحقيقة الباقية في هذا الجزء من العالم.
الغد 2017-08-26