"طعام الشارع" والشُّح الوطني..!
هناك مظهر يتصل بالسياحة والثقافة الوطنية لكثير من الدول، يُسمى "طعام الشارع" Street Food. ويضم "يوتيوب" عشرات الفيديوهات التي تعرض هذا العنصر السياحي في مدن عالمية كبرى، مثل اسطنبول وبانكوك وهافانا ومكسيكو. وفي اسطنبول القريبة نسبياً والمشهورة بهذا المظهر، تتفنن المطاعم والعربات المتنقلة في تقديم تنويعات من الأطباق الوطنية السريعة التي تُقدم للسياح، بأسعار معقولة.
الملفت في ما تعرضه أشرطة "يوتيوب" عن طعام الشوارع في مدينة مثل اسطنبول، شيء ربما تمكن تسميته "السخاء الوطني"، الذي يُجسد نفسه في تقديم الوجبات. مثلاً، يضع العاملون في مطاعم "أكلات الشوارع" كميّة وفيرة من المواد في شطائر كبيرة الحجم بشكل ملفِت، يصنع انطباعاً بأنهم طيبو النفوس، ويقدمون لك ما يستحق ثمنه. ولا أعرف ما إذا كانوا يضعون في الأطباق والشطائر هذه المقادير الكريمة من المكونات لمعرفتهم بأنهم يُصوَّرون، أم أن هذه طبيعة الأمور. لكنَّ الفكرة تولِّد جملة من التداعيات.
لا شك من حيث المبدأ في أن أصحاب "طعام الشوارع" في اسطنبول يربحون، ويربحون كثيراً. وهم بالتأكيد جزء من مكوِّنات الحركة السياحية النشيطة في البلد، والتي يُقدمون لها ويستفيدون منها. ويمكن افتراض أن جودة الطعام وتنوعه والسخاء في تقديمه تعكس كلها نمطاً من الثقافة السياحية التي عنوانها "تدليل السائح" وإقناعه بأنه يأخذ مقابل ما يدفع، ودعوته إلى إعادة الزيارة لنفس المدينة أو ارتياد مدينة أخرى في البلد.
في المقابل، يشعر المرء هنا بأن مقدمي خدمة "طعام الشارع" يقطعون من جلودهم عندما يبيعونك شطيرة. وفي الحقيقة، ليس لدينا عنصر سياحي ينتمي حقاً إلى فئة طعام الشارع بالمفهوم العالمي –ربما إلا شطيرة الفلافل أو الشاورما إذا جاز اعتبارها كذلك. لكن معظم باعة الشاورما مثلاً، يضعون لك كمية مختصرة جداً من المكونات، في شطيرة صغيرة جداً غالباً، مثلَ ما نسميه "العيِّنات". ومقابل "سندويشة" اسطنبول من نفس المادة، ستشتري هنا خمس أو ست شطائر من هذه العينات لا تستحق ثمنها. وأتصور أن الإحساس ببُخلِ هؤلاء ملموس، يتقاسمه المواطن والسائح على حد سواء. وهو مثال على نمط.
النمط هو أن كثيراً من المشاركين في التبادلات السياحية أو التجارية أو الخدَمية لا يعرضون روح السماحة وطيب النفس عند تقديم سلعهم. وكأنما تغيب عن الثقافة الوطنية في كل هذه المجالات فكرة أن إرضاء الزبون هو أساس إدامة العمل. وقد تذهب إلى فني إصلاح سيارات فيستغلك ويخدعك ويبيعكَ قِطعاً لا تلزمك، وكذلك يصطادك الكهربائي وبائع الخضار، وصاحب المنتجع السياحي –كل بطريقته. ويُفترض أن يمنعك اكتشافك الاستغلال من العودة، لكن هناك دائماً مَن يعودون، ربما لندرة البديل!
هنا، يكلفك قضاء ليلة في مكان سياحي في بلدك في كثير من الأحيان أكثر من ثلاث ليالٍ في بلد آخر، مع الوجبات وتذاكر الطيران وغنى المشهد الطبيعي وكمال الخدمة. وكأنما هناك تواطؤ غير حكيم على تسويق الانطباع لدى السائح وطالب الخدمة بوجود ثقافة بُخل واستغلال وغياب لسماحة النفس. ولا أنسى ما رواه لي سياح ألمان ملأوا خزان سيارتهم السياحية في إحدى كازيات عمان، ليضيء مؤشر نفاد البنزين بمجرد وصول الفندق على بُعد بضعة كيلومترات.
كثرة الغُش الذي نصادفه في معظم تعاملاتنا، وشكُّنا المتأصل في صدق عارض السلعة أو الخدمة أصبحت من اليوميات. وأصبح من الضروري أن تسأل ثلاثة أو أربعة أشخاص يقدمون نفس الخدمة، من فني التمديدات السياحية إلى الطبيب، حتى تستطيع أن تثق قليلاً بتشخيص الخلل والكلفة الحقيقية للخدمة. وبقدر ما يكون ذلك ضاغطاً على الناس في البلد، فإنه الوصفة الأكيدة لتنفير الزوار وتجفيف مصدر مهم للدخل الوطني. وأصبحنا نسمع كثيراً عن زوار عرب وأجانب يروعهم ارتفاع أسعار الخدمات والسلع مقابل رداءة السلعة والخدمة، فيعِدون بعدم العودة، ويقولون إن بوسعهم قضاء وقت أرخص كلفة وأفضل –حتى في مدن أوروبا الشهيرة.
المسألة ليست مجرد عرض الطمع والشح وقصر النظر في "طعام الشوارع". المسألة قد تكون انسحاب ثقافة الصدق والكرم وطيب النفس الشخصي والوطني، لصالح طباع الأنانية والشُحِّ والغش وسوء أداء العمل. ويبدأ ذلك من الشطيرة "العيِّنة"، ولا ينتهي بترقيع الشارع ورداءة الخدمة العامة. وهذه وصفة أكيدة للإفلاس الوطني.
الغد 2017-09-07