رواية "ترانيم الغواية"
"القصص حين لا تشبه حياة الناس تملك حواسهم" ليلى الأطرش.
كأن ليلى الأطرش في روايتها "ترانيم الغواية" تجد في أزهايمر العمّة الكبيرة ميلادة مصدرا للإبداع والحرية. حكاية الحكايات المتداعية والمتناثرة.. والبوح أيضا. كأن الأزهايمر يحمي الإنسان ويعفيه من الكتمان والالتزام المقدس والمستحيل، لكنها حكايات بما تفيض به من شغف تحلّ بقارئها طاقة فائضة تجعله يتساءل كيف احتملتها المؤلفة!
أورسالم "القدس" وإن كانت مثقلة بالقداسة منذ عرفت ونشأت قبل اليهودية بآلاف السنين وقبل الكنعانيين واليبوسيين أيضا، تعاقبت عليها الأمم والأديان ومنحتها قداسة استثنائية، لكنها أيضا مدينة كما المدن مليئة بالأسرار والغوايات والحكايات، وأهلها وسدنتها وكهنتها وأحبارها شملتهم الأحداث والتحولات التي هبطت على العالم وغيرت كل شيء، سكة الحديد والحروب العالمية، والصراعات والهزائم والانتصارات والكهرباء والإذاعة والتلفزيون والسيارات والصحف والكتب والسينما..
ومن خلال عائلات مقدسية وامتداداتها نلاحظ التحولات والحكايات المتناثرة في فضاء القدس منذ نهاية القرن التاسع عشر، الصراعات الدينية الطائفية في داخل الأديان والصراعات بين الأديان نفسها، المناصب الدينية التي صارت وظائف سياسية واقتصادية أيضا، والهجرات إلى أنحاء العالم، والظلم والضرائب والحروب.. والحب المحرم الذي جعل للرواية نكهة درامية وإنسانية، فنحن أيضا نحبّ كما نصلي ونقاتل ونموت، ولا نسلك في مشاعرنا وراء الكمال لكنا نحبّ بما نحن؛ تكوننا العقول والمشاعر والأهواء والمصالح.. والقصص والحكايات التي كانت واقعا معاشا وبيئة حاضنة كما القدر!
نتلاشى عندما تختفي حكاياتنا، فنحن هذه القصص بلا نقص أو زيادة، وننقص بقدر ما ينقص من حكاياتنا حكايات، وإن كان بعضها في زمن أسرار نتواطأ على كتمانها فلا يجوز نسيانها؛ لأننا نُنْسى أيضا في نسيانها، وهذا ما فعلته ليلى الأطرش في روايتها للقدس.
تبدو قصة القدس قصة كهنتها وسدنتها وأحبارها وطوائفها.. الرجال الذين عاشوا مقسمين بين الله وقلوبهم، مثل الخوري متري الحداد والبطريرك ذيميانوس، لكنها أيضا قصتنا جميعا في كل مدينة وفي كل زمان، .. كأن هذا الشغف بـ أورسالم (القدس صفة وليست اسما) هو توقنا الدائم إلى السلام، أو هو تصحيح خطايا الناس حين ينتهكون هذا السلام، فالمدن جميع المدن تتشكل حول ساحة مقدسة تصير واحة للسلام لا يجوز فيها الخصام، لكنهم وعلى نحو ما جعلوا القدس ساحة السكينة للعالم كله أو لأولئك أهل شرق المتوسط وشماله وجنوبه والذين حسبوا أنهم العالم، أو كأنها مدينة المدن، وفي ذلك وعلى نحو ما تعذّر السلام أو عجز الناس عن إدراكه واستيعابه، صار يفوق طاقتهم، والناس وإن جعلوا الساحة المقدسة أصلا للعبادة والصلة بالربّ أو الآلهة المتعددة لدى بعضهم، إنما أرادوا أيضا واحة يشعرون فيها بالأمان مع أخطائهم وأهوائهم وما نهاهم عنه الربّ أو زعم سدنة وأحبار ورهبان وربيون وعلماء ومشايح ووكلاء أن الربّ نهى عنه، وفي عجزهم عن الانتهاء كانت واحة للسلام.. وكان أيضا الاعتراف! خطايانا صارت جزءا من صلاتنا، ولذلك أحببنا الخوري متري والبطريرك ذيميانوس وميلادة وكل المحبين والعاشقين، سواء كان حبا محرما أو غير محرم، .. لكن أيضا لم يكن الحب وحده ينشأ في ظل السلام والأسرار.. فقد امتلك الأكثر معرفة مساحات واسعة من أراضي الناس وتسربت أراض كثيرة إلى اليهود، بيعت في غفلة من أصحابها الذين لم يعودوا أصحابها ويحسبون أنهم كذلك فقد سجلت ووثقت بأسماء تجار ووكلاء وموظفين وسماسرة، .. وضاعت مدن وبلاد وحكايات.. تقول ليلى الأطرش "مؤسف أن نجد أنفسنا في مهب ريح عاتية عزلا ولا سلاح"
ليلى الأطرش: ترانيم الغواية (رواية) منشورات الضفاف.
الغد 2017-09-13