المدن تعيش بذكرياتها
نشأت المدن ومنها عمان والزرقاء على الأنهار، وظلت لآلاف السنين محددة بمساحتها وعدد سكانها لا تزيد ولا تنقص إلا بحدود قدرتها على التواصل والتموين والتنظيم، المدرج على سبيل المثال يؤشر إلى عدد السكان، إذ يجتمع أهل المدينة في الساحة والمدرج على نحو منتظم للعبادة والتجارة والتسلية والترفيه والجدل والقضاء،.. ويساعدنا كتاب لويس ممفورد "المدينة على مر العصور" لملاحظة كيف أن المدينة اكتسبت صفتها واسمها بالنظر الى المنظومة القانونية والاجتماعية والثقافية التي أنشأتها، فلم يكن تحول القرية إلى مدينة مجرد تغيير في الحجم والقياس، وإن كان قد انطوى على هذين العاملين، بل إنه كان على الأصح تغييرا في الاتجاه والهدف تبين في نوع جديد من التنظيم.
وإذا كان ممكنا التعرف على القرى بأساسات المنازل وحطام الفخار، فإن المدينة القديمة يمكن التعرف عليها بالتماثيل والفنون، يقول وليام جيمس إن منزل الإنسان وممتلكاته تصبح جزءا من شخصيته، شأنها شأن معرفته وعواطفه وآرائه وأفعاله، وإذا صدق هذا عن الفرد فإنه أكثر صدقا عن المجتمع، إذ أن المنشآت الجميلة الحديثة كانت الوسيلة الوحيدة التي توسلت بها المدينة لتحدد معالم الشخصية الجماعية الجديدة التي انبثقت ولنتعرف إليها.
كان المعبد يؤدي وظائف السوق – التدبير والتخزين والتوزيع، وكانت تجري في المعبد بالإضافة إلى التخزين عمليات نزع الصوف وطحن الحبوب والدباغة والغزل والنسيج،.. وكان المجتمع الخاص بمعبد ما يتخذ شكل وحدة جوار، ويتألف من الكهنة والموظفين والصناع والتجار، كانوا جميعا شعب الإله، وقد ظل السكان مدة طويلة رعايا أو موالي مرتبطين بسيدهم الديني وليسوا مواطنين، .. وتتكشف كل سمات المدينة الباكرة عن الاعتقاد بأن الإنسان لم يخلق إلا لغرض واحد وهو تعظيم آلهته وخدمتها، فتلك كانت الغاية القصوى من وجود المدينة.
تعتبر أريحا أقدم مدينة معروفة في التاريخ، وقد كشفت أعمال الحفر عن وجود صهاريج ضخمة لضمان توافر الماء باستمرار، وهي ما تزال تعطي ألف جالون في الدقيقة الواحدة، وفي أقدم المنازل التي اكتشفت توجد حجرات يدل شكلها المستدير على ما صحب الاستئناس من المظاهر المبكرة لسيادة الأم. ولم تكن المدينة في بدايتها كما يبدو تعرف النظام الملكي، فقد تطور تنظيم المدن من الثقافة القروية القائمة على تدين الأسلاف والمشاركة الديمقراطية وتبادل المعونة.
بدأت المدينة كبقعة مقدسة، كانت جموع متفرقة من الناس تتردد عليها في أوقات معينة لإقامة المهرجانات والطقوس الدينية، كانت قبل كل شيء مكانا دائما للاجتماع، وأما عن فوائد الاختلاط الحضري، فقد هيأت مكانا مستمرا للاجتماع لمن كانوا يعيشون عيشة الرحل، كما هيأت لمن كانوا يقبعون في عقر دورهم مواجهة ما في تجارب الخارج من إثارة وتحد، وتقدم الأساليب الرمزية في التخزين زيادة في طاقة المدينة، فهي بوصفها وعاء لم تقف عند حد احتوائه جماعة من الناس والمنظمات أكبر مما كان يحتويه أي نوع آخر من المجتمعات، بل إنها كانت تصون وتنقل من حياتهم شطرا أكبر مما كان يتسنى لذاكرة الأفراد أن تنقله مشافهة، وهذا التكثيف والتخزين من أجل توسيع نطاق حدود المجتمع زمانا ومكانا ما هو إلا إحدى الوظائف التي تنفرد المدينة بأدائها، ومستوى أداء هذه الوظيفة يقرر إلى حد ما مكانة المدينة وقدرها، إذ أنه مهما كانت وظائف المدينة الأخرى أساسية فإنها غالبا ثانوية بالنسبة إلى هذه الوظيفة، وتمهيدية لها، فالمدينة كما لاحظ إمرسون "تعيش بذكرياتها".
الغد 2017-10-04