جدل الهوية والإرهاب
أثارت مذبحة لاس فيجاس ردود فعل واسعة على شبكات التواصل حول التعامل الأميركي السياسي والإعلامي مع الفعل الدموي والفاعل الدامي، وتساءل الكاتب الأميركي المعروف توماس فريدمان في مقال نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» ماذا سيكون رد فعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمشرعين في الكونغرس في حال كان مُطلق النار مسلماً ويتبع تنظيم «داعش» الإرهابي؟، الأمر الذي دفع بجدل الهوية والإرهاب إلى طرح إشكالية التعامل مع أفعال متشابة إذا كان الفاعل مختلفا، وخلق شكوكا حول تعريف الإرهاب وتحديد ماهية الفعل الإرهابي، وتساؤلات تتعلق بربط الإرهاب بهوية الفاعل وانتماءاته وليس فعل الإرهاب ذاته.
من الناحية العملية لا فرق بين فعل إرهابي وآخر سوى مسألة هوية الفاعل، فما حدث في لاس فيجاس تتجاوز أهواله وحجمه ما حدث في هجمات أخرى وصفت على الفور بكونها إرهابية، إذ تعتبر مجزرة لاس فيجاس الأشد فتكا والأكثر هولا منذ هجمات 11 ايلول 2001، فالمجزرة التي وقعت في 2 تشرين اول 2017 حين كان أكثر من 22 ألفا يحضرون حفلا موسيقيا للمغني جيسون ألدين، أسفرت عن مقتل 59 قتيلا و527 جريحا، ومع ذلك لم توصف الحادثة بالإرهابية، ولم ينعت منفذها ستيفن بادوك بالإرهابي.
تكشف مذبحة لاس فيجاس بما لا يدع مجالا للشك الطبيعة السياسية لمفهوم الإرهاب التي تتجاوز المقاربات الابستمولوجية المعرفية، حيث يتحول مصطلح «الإرهاب» إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض، فسلطة القوة السيادية الانتقائية هي من تتحكم في تعريف ماهية الإرهاب ومادته، وتحدد هوية الإرهابي وكينونته، وإذا كان الخطاب السياسي الغربي الذائع منذ أحداث سبتمبر في أميركا يقوم على الربط بين «الإسلام» و»الإرهاب» فقد بات شائعا منذ أحداث»شارلي إيبدو»في فرنسا أن «ليس كل المسلمين إرهابيين، ولكن كل الإرهابيين مسلمون، وبهذا فقد أصبح مفهوم «الإسلام» ينطوي على صفة هوياتية جوهرانية ستاتيكية ترتبط دلاليا بالشر والفساد، وباتت الهوية محددا أساسيا في معرفة العمل الإرهابي، فسياسات واستراتيجيات مكافحة الإرهاب الأميركية والأوروبية أصبحت تحدد ماهية الإرهاب بهوية الفاعل وليس بذات الفعل الإرهابي.
إن التحول في تحديد وتعريف الإرهاب على أساس الهوية هو نتاج تغير بنية العلاقات الدولية ما بعد الحرب الباردة التي باتت تربط بين الإسلام والإرهاب، فقد ارتبط الإرهاب السّياسيّ منذ 11 ايلول 2001 آليّا في وعي الغرب، والوعي الأميركيّ تحديدا، بالإسلام، بحيث أضحى المسلم منتميا بحكم ذلك إلى فئة «هؤلاء النّاس الّذين يسمّمون الوجود»، أو ممثّلا لهذه «الذّات السّامّة» الّتي يشمل نعتها بالسّامّة عدّة مجالات طبيعيّة وثقافيّة ونفسيّة وسياسيّة، كوّنت معا سجلاّ جامعا يضمّ المهاجر الّذي يحمل مرضا فتّاكا يقتضي عزله، أو الإرهابيّ الّذي ينبغي وضعه في جوانتنامو، أو الإيديولوجيا الأصوليّة الّتي تنشر الحقد والكراهية، خصوصا «المسلم الأخير» الّذي مثّله الإرهابيّ بوجوهه الكثيرة المنتثرة جغرافيّا هنا وهناك بين محاربي طالبان، ومساجين جوانتنامو، والمقاومين الفلسطينيّين، وأعضاء القاعدة، وغيرهم، وإذا كانت هوية الإرهابي ذاتية غير موضوعية نظرا لكون الإرهاب مفهوم مفروض غير مفترض تفرضه سلطة القوة الاعتباطية، فقد بات المسلم الأخير إرهابيا بالضرورة.
مسألة الهوية والإرهاب تبدو واضحة إذا رجعنا إلى العمليات الموصوفة بالإرهاب ونسبة منفذيه من المسلمين، وهي ضئيلة حسب الإحصاءات الدقيقة والموثوقة الأميركية والأوروبية، لكن ذلك لا ينفي صفة الفعل الإرهابي عن هوية المسلم، فبحسب العبارة الشائعة لدى المغلقين الغربيين منذ أحداث شارلي إيبدو «ليس كل المسلمين إرهابيين، ولكن كل الإرهابيين مسلمون» لكن الحقيقة تشير إلى أن الغالبية الساحقة من أولئك الذين ارتكبوا الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة وأوروبا ليسوا مسلمين.
تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الهجمات الإرهابية التي ارتكبت في أميركا وأوروبا من قبل المسلمين على مدى السنوات الخمس الماضية أقل من 2 في المئة، كما أشارت يوروبول، وهي وكالة إنفاذ القانون في الاتحاد الاوروبي، وبأن الغالبية العظمى من الهجمات الإرهابية في أوروبا ارتكبت من قبل الجماعات الانفصالية، وعلى سبيل المثال، في عام 2013، كان هناك 152 هجوما إرهابيا في أوروبا، اثنين منهم فقط «ذات دوافع دينية»، بينما كانت 84 من الدوافع مبنية على العرقية والقومية أو الانفصالية، حيث نفذت جماعات مثل (FLNC) فرنسا، التي تنادي بدولة مستقلة في جزيرة كورسيكا، قام إرهابيوها في ديسمبر 2013 بهجمات صاروخية متزامنة ضد مراكز الشرطة في مدينتين فرنسيتين. وفي اليونان قامت الحركة اليسارية المتشددة والمعروفة باسم القوات الثورية الشعبية في أواخر عام 2013 بقتل اثنين من اليمينيين من أعضاء حزب سياسي يدعى الفجر الذهبي. بينما في إيطاليا، هناك مجموعة (FAI) الفوضوية تورطت في هجمات إرهابية عديدة بما في ذلك إرسال قنبلة لأحد الصحفيين، والقوائم لا تنتهي، ولكن دون الإشارة إليها وتغطيتها، لا في الغرب ولا في العالم العربي والإسلامي فهي ليست إسلامية.
رغم أن نسبة الهجمات «الإرهابية» التي ارتكبها المسلمون في الولايات المتحدة ضئيل جدا كما هو الحال في أوروبا، إلا أن ذلك لا يغير من الصورة النمطية للإرهاب،فبحسب دراسة قامت بها وكالة الاستخبارات الأميركية FBI عن الإرهاب على الأراضي الأميركية بين عامي 1980 و2005، فإن 94% من الهجمات الإرهابية ارتكبت من قبل غير المسلمين، 42٪ منها تم تنفيذه من قبل مجموعات لاتينية، يليها 24% من جهات يسارية متطرفة، ومع ذلك تذهب التفسيرات الغربية إلى المطابقة بين الإسلام والإرهاب، وترتفع الأصوات الغربية التي تطالب المسلمين بالتبرؤ من «الإرهاب» والعنف.
جدل الهوية والإرهاب الإسلامي تقوم على عمليات تغطية تحجب الحقيقة، إذ لا نكاد نسمع عن البوذية سو كونها ديانة انسانية مسالمة، ولا نظفر بأخبار عن إرهابيين بوذيين مثلا، مع أن المتطرفين البوذيين قتلوا المئات من المدنيين المسلمين في بورما وتجري يوميا عمليات قتل وتهجير وصلت مؤخرا إلى أكثر من نصف مليون من أقلية الروهينجا المسلمة إلى بنغلادش في ظل صمت دولي مطبق، وصرف النظر عن وصف الفعل بالإرهابي، الأمر يتكرر في مناطق عديدة بأبشع الطرق من الذبح والحرق لمسلمين مسالمين.
أما الإرهاب الصهيوني فالحديث عنه محرم خشية الملاحقة بتهمة اللاسامية، إذ لا تسمع في وسائل الإعلام عن الإرهابيين اليهود، على الرغم من توفر تقارير رسمية موثوقة، ففي تقرير وزارة الخارجية الأميركية 2013 عن الارهاب، كان هناك 399 من الأعمال الإرهابية التي ارتكبت من قبل المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، وهؤلاء الإرهابيين اليهود هاجموا المدنيين الفلسطينيين مما تسبب في إصابات جسدية لـ 93 منهم، بالإضافة إلى تخريب عشرات المساجد والكنائس المسيحية، أما الجرائم الإرهابية لجيش الاحتلال الإسرائيلي وقتله لآلاف الفلسطينيين، فيقع في عرف وسائل الإعلام باعتباره دفاعا عن النفس.
خلاصة القول أن مذبحة لاس فيجاس بعثت سؤال الهوية والإرهاب، ذلك أن تعامل وسائل الإعلام الأميركي كان مثيرا فقد وصفت بادوك بصفات شتى ليس من ضمنها كلمة»إرهابي»، فهو «ذئب منفرد» حينا و»جد» أحيانا و»مقامر» و»محاسب سابق» أحيانا أخرى، وتذرعت بعدم توافر أي معلومات موثوق بها حول دوافع بادوك لتنفيذ الهجوم الدامي، وأصرت على عدم وجود لأي صلة بينه وبين الإرهاب الدولي، بل نفت احتمالية كونه مريض عقلي، وهو ما دفع رواد وسائل التواصل الاجتماعي إلى القول لو كان بادوك مسلما، فإن مصطلح «إرهابي» كان سيُستخدم على الفور لوصفه، كما كان سيجري ربطه بـ»الإرهاب الإسلامي» حتى من دون وجود أي دليل.
الراي 2017-10-09