المرأة الكريستالية!
كان يحمل في أحشاء عقله صورة لامرأة، بمواصفات كريستالية، فهي جسد أسطوري يتكون من ذرات غبار الطلع المعجونة برحيق الأزهار والعسل، المضمخة بقطرات ندى،تشبه غابة استوائية لم تزل بكرا!
هكذا يتخيلها، أو يحب أن تكون على الأصح، وهو يضفي عليها صفات وطبائع تخرج من أعماقه هو، ولا يهمه ان كانت لا تمت بنسب لها، لأنه «يحلم» بامرأة كونها خياله، وأودع فيها مواصفات، تترجم جوعا مزمنا لـ «مثال» ربما يكون غير موجود على الأرض، وتسدد فواتير قديمة، وتعالج ندبا روحية، وجروحا قديمة، انه يحذو حذو «بجماليون» في رواية توفيق الحكيم الشهيرة، الذي صنع تمثالا لامرأة هيمنت عليه وغدا أسيرا لما صنع، أو يفعل كما دأب العربي في الجاهلية حين كان يصنع إلهه من التمر، ثم يشرع بعبادته، لكنه هنا لا يجرؤ على أكله حين يجوع، بل يبدأ بمحاكمة «معبودته» وفقا لاشتراطات ومواصفات هو أودعها فيها، وقد لا تكون موجودة فيها البتة، والكارثة هنا حين يصحو هذا العاشق المجنون على «واقعية» محبوبته، ونزوعها للتراب والطين، كأي مخلوق بشري لا علاقة له بغبار الطلع ولا بالرحيق!
الشعوب المحرومة المهزومة والمأزومة تلجأ للحلم الجماعي، فتصنع «بطلها» كما تحب أن يكون، لا كما هو كائن، وتبدأ بالنفخ فيه، فتصدق أنه مخلصها ومنقذها، ويصدق هو كذلك الكذبة الكبرى، حتى إذا وضع هذا «البطل» على محك ما، وتبين زيف الحلم، انهار كل شيء، وأنشدت، مع ذلك العاشق المجنون:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى - كان صرحا من خيال فهوى!
ليست صروح الهوى هي التي هوت، فالهوى كان محض هواء، حوله خيال الحرمان والجوع المزمن إلى صروح وهمية، لا تصمد أمام العواصف والأنواء، وكلما بالغنا في الوهم وأمعنا في إتقان صناعته، ومارسنا أحلام اليقظة بدأب وتفان، كانت الدهشة والانهيار أكثر فظاعة وأشد عنفا!
نحن أمة تداعت الأمم علينا، كما تداعى الأكلة على قصعتها، نحن مستباحون لعابري السرير، على حد تعبير أحلام مستغانمي، فضلا عن عابري السبيل، مال ومنشآت ونظم وثروات تغري بالسرقة والنهب، نصفنا حالم ونصفنا نائم، ونصف ثالث يعيش في اللامكان، فهو ليس هنا ولا هناك، ننتظر على رصيف الكون، حدوث المعجزة!
الدستور 2017-10-11