المدن بأهلها عمان القديمة والجديدة
عمان الجديدة المطروقة على أبواب التفكير والتمني تحتاج شاعراً؛ ليكون أميناً لها. مع أن هذا الرأي سيدخلني في اشتباكين اثنين معاً. الأول مع نقابة المهندسين التي ستحتجُ على تعيين من لا يكون عضوا فيها. والاشتباك الأصعب، مع الفيلسوف أفلاطون، صاحب المدينة الفاضلة، الذي طرد الشعراء، عندما صمم مدينته (الخيالية)، ولم يترك لهم (مفحص قطاة)، أو مكاناً للقرفصاء أو القرمزة (طريقة جلوس مختصرة).
المدن العظيمة لا تقيمها الجسور المعلقة، ولا ترفعها الأبراج ماخرة الغيوم، وملامسة النجوم، المدن العظيمة لا تسير أعمالها الأنفاق الذكية، والشوارع النظيفة اللامعة ذات البهجة، فحسب. بل المدن تحتاج إلى خيال خصب، جموح، طموح، يمازج واقعها، حتى لو كان بائساً، ليضفي عليه لمسات خلاقة مبتكرة، ببصمة فريدة.
مدينتنا الموعودة تحتاج إلى خيال شاعر، حتى ولو لم يكتب شعراً، تحتاج شاعراً (ليؤنسن) فيها كل شيء: يؤنسن شجرها إن كان بها شجر، وأرصفتها وحدائقها وشوارعها. فالمدن ليست اسمنتاً وحديداً وأسقفاً مُقرمدة. المدن نساء عامرات بالأنوثة والخصب والحب.
فمن يتأمل راية عمان القديمة يحتاج لقلب شاعر، كي يلتقط إشاراتها ليختصر تاريخا يمتد لأبعد من تسعة آلاف عام، أي منذ تجمعات (عين غزالة) وقريتها الأولى في الألف السابع قبل المسيح عليه السلام. ونحتاج لهما معاً، العين والقلب، لنقرأ أن الراية بيضاء لنقائها، وجبالها مختلفة الألوان، فأهلها جاؤوا من أعراق ودماء وديانات مختلفة، ومع هذا ظلت منسجمة متناغمة.
وقد يكون أن النصيحة الأولى التي ستقدم لمن يفكرون بعمان جديدة منفصله عن عماننا القديمة، أن تنشئ بنيتها التحتية متوافقة مع تصفير الازدحام والتلوث البصري، وتقلص حجم الإسمنت المدلوق في سمائها لحساب الشجر والحدائق والمسطحات الخضراء، وجعلها مدينة يقع المرء في حبها من أول خطواته فيها.
ورغم جوهر تلك النصائح الثرية إلا أنني مع أن (منظومة السلوك المدني) هي الأولى والأهم دائما حينما يفكر في إقامة المدن. فالمدن بأهلها وأخلاقهم وقلوبهم، فلا تنظف مدينة إلا إن كان أهلها كذلك، ولا تشعر بودها وحنانها، إلا إذا ربينا مواطناً يتمتع بمنظومة حيوية مفعمة بالخير والإنسانية.
الدستور 2017-10-24