خرافة الليل والنهار: وعد بلفور
مائة عام، والجريمة ترتدي بدلتها الرسمية، تتناول شايها المسائي على الطريقة الانجليزية، وتجلس الى مكتب باذخ، يرفل بالأناقة، في غرفة تفوح منها روائح إمبراطورية، لم تغب عن مستعمراتها الشمس ذات قحط.
هناك، في تلك القرنة المصابة بلوثة العجرفة، كان يجلس آرثر جيمس بلفور؛ وزير خارجية تلك الإمبراطورية التي بدأت تغيب عن بعض مستعمراتها الشمس، ليضع ديباجة وعد، سيمر عليه مائة عام، بدون أن يحرك أي نبض في وجدان إمبراطورية صارت تجلس، على ركام ذكريات مريرة للشعوب التي استعمرتها.
في أروقة مجلس العموم البريطاني، تداول نواب بريطانيا العظمى، شأنا لا يخصهم، وأدلوا فيه بدلائهم المعبأة بالموت والخراب والتشريد لشعب فلسطين.
كان الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، يحمل واحدة من أكثر جرائم الخداع التي ارتكبت في التاريخ.. رسالة موجهة من بلفور الى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، بارون المال والمرابي الصهيوني البار، ابن أثرى العائلات في العالم، يدفع بهدوء وبروية وباستمتاع خبير في تذوق النبيذ، ما يمكن الإمبراطورية من التبول ذات مساء في مستعمرة جديدة من العالم.
فلسطين.. كانت القطعة التي يريد روتشيلد البدين، المحشو بخرافات ما قبل التاريخ، وقصص المصابين بالجنون والشيزوفرينيا، أن يتنشق هواءها المسجون في عقله التوراتي.. وسيدفع ملايين الجنيهات في ذلك الوقت على شكل صكوك دين أو تبرعات أو أعطيات.. لا فرق، ليمد الإمبراطورية التي تعاني من الصدأ ببعض اللمعان.
ثمة خرافة تم نبشها في العقل اللاهوتي الصهيوني منذ قرون، خرافة أرض الميعاد، تلك التي جيء ذات مساء قبيل معركة تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بأوراق ورسومات ومخطوطات في حقائب علماء آثار بها، الى رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون، ليخبروه بأن أرض الميعاد التي تتحدث توراته عنها، ليست فلسطين التي يرتع فيها، ويسميها إسرائيل.
الرئيس المصاب بشهوة إقامة دولة، تمتد عروقها من النيل الى الفرات، وهو العلماني، يقف على شهوته في التوراة، ويريدها بالرغم من كل الموت الذي قد ينجم عنها.
يقف بن غوريون مذهولا بما كشفه له هؤلاء القادمون، مصابا بِرِدة، لا يصاب بها إلا من وقع عليه أمر لا يحتمل التشكيك فيه قيد أنملة.
أخبره من أتوه بالفاجعة التي قاتل من أجلها كل عمره، هو وبقية أرتال التوراتيين المتعلمنين والمتدينين، بأن إسرائيل تائهة، لا وجود لها إلا في بضع أوراق كتبها مجموعة مرضى بالخوف من الضياع، ولا دالة على ما كتبوه فوق الأرض، تائهون، تستأجرهم الخديعة كل يوم ليكونوا من مسننات آلة الجريمة في فلسطين.
إذن لا أرض ميعاد في فلسطين، ولا وجود لإسرائيل.
لكن الصحف الإسرائيلية، تنهض من تمطيها في الصباح، لتكتب أن أحاديث بن غوريون عن مراجعة التاريخ، والبحث عن إسرائيل الأصلية، ترهات مريض بالعته.
**
مات بن غوريون..
مات بلفور، لكن جريمته تمشي اليوم بيننا، مسلحة بأشرس آلات الخرافة والقوة والمساندة، وما تزال مائة عام غير كافية، لقتل جني الموت في قمقمه، وإيقاف سيل الدم الذي يرتكبه وعده يوميا.
أكثر من 65 مليون بريطاني اليوم، يعرفون أن بلفور قدم وعدا لمجموعة بشرية بالحلول فوق أرضهم، وطردهم منها، بدون أن يطرف له ولا للبريطانيين جفن.. وعد لا يبدو كوعد، وإنما كمجزرة تهتك التاريخ والحقائق بذرائع، حتى كتابها المقدس، لا يلم به.
وهؤلاء الـ65 مليونا، سيذهبون في غيبوبة احتفالات مديدة في العام 2017، تحية لما ارتكبه وزير خارجية لهم، كان عائشا في العام 1917، صمم واحدا من أبشع الأعمال الاستعمارية التي مر بها البشر.
سيتساءل فلسطيني ذات مساء: أيعقل أنّ من يتحدثون عن قيم الحضارة والإنسانية والحرية والديمقراطية والعلم والموضوعية والنزاهة.. الخ القائمة، لا يعرفون الحقيقة، وينسون أنهم تسببوا بتشريد ملايين الفلسطينيين وقتلهم، لمجرد أن بلادهم كانت بحاجة الى مال مرابٍ صهيوني، يذكرنا بمرابي شكسبير بطل بريطانيا القومي في المسرح.
الغد 2017-10-29