ذاكرة ثقافية للاقتصاد والمواطنة
تنشئ الأمم والأفراد سلوكها الاجتماعي والثقافي أساسا وفق غرائز ودوافع بيولوجية قائمة على الخوف والبقاء وتحسين البقاء، وفي ذلك تتشكل وتتطور علوم البيولوجيا السلوكية والثقافية بما هي ملاحظة ودراسة اتجاهات ومواقف الأفراد والمجتمعات وفق ما تهديها غرائزها الأساسية لتحسين حياتها. هذا التفسير على صحته يبدو مجرد حقيقة بسيطة ومؤسسة لفهم التطور والتعقيد في سلوك واتجاهات الأفراد والمجتمعات، ولا يصلح عمليا للتفسير والمراجعة إلا بما تطورت المعرفة البيولوجية الثقافية لتواكب تطور الإنسان نفسه. لكن نظل في حاجة مستمرة ومتواصلة لاستحضار تاريخ الأفكار وتشكلها وتطورها لأجل التصويب والمراجعة المستمرة لمنظومة الحياة والموارد والتشكلات الاجتماعية والسياسية المصاحبة لها.
لقد كانت الوفرة هي استراتيجية الإنسان لأجل تحسين الحياة والإنفاق على أعمال وإن لم تكن منتجة بالمعنى المباشر لكنها تصلح لتطوير الإنتاج نفسه وتحسين الموارد. هكذا نشأت الثقافة بما هي عملية قدّر الناس الحاجة إليها لتحسين الموارد وتعظيمها وإدامتها وصيانتها، وهكذا أيضا تقيّم الثقافة بما هي وعي الذات، لكن المثقفين وإن كانوا ضرورة اقتصادية واجتماعية يظلون بالمفهوم الاقتصادي والإنتاجي متسولين، حتى عندما تكون الثقافة سلعة رائجة في الأسواق تنشئ موارد للمشتغلين بها وتنشئ أيضا صناعات وأسواقا ووظائف، هي ليست غذاء ولا دواء ولا معارف ومهارات وموارد مادية ملموسة في الصناعة والإنتاج والسكن وإطالة العمر وتحسين الصحة والأداء، وبرغم الحاجة الكبرى لهم يظل الشعراء والدعاة والروائيون والمشتغلون بالمسرح والسينما والرواية والترفيه متسولين وعالة على المنتِج الأساسي؛ المزارع والصانع والنجار والحداد والطبيب والمهندس والبناء،... حتى عندما يزيد الفنان المصمم وربما يضاعف قيمة السلعة فإنها موارد رمزية ووهمية وإن جلبت مالا كثيرا، فالمال في الأساس هو الماء والطاقة والأرض والزرع والثمار والمواشي وما ينشأ عنها من دواء وأثاث ولباس وبيوت وأعمال ومتعة .. لم يكن الغنى والفقر يقاسان الا بالأراضي والمواشي، وقد ظل التجار في الحضارات والمجتمعات يغلب عليهم أنهم غير مرغوب فيهم برغم الحاجة إليهم، لقد أنشأ هذا الأسلوب خللا سياسيا واجتماعيا متراكما وطويلا، لم ينظر إلى التجار كمواطنين ومشاركين في الحياة السياسية والعامة، وفي غالب الأحيان يكونون من الغرباء، هكذا تشكلت علاقة اليهود بالمجتمعات الأوروبية على مدى التاريخ، فقد كانوا يديرون البنوك والأسواق والذهب والنقود، وبرغم ثروتهم الهائلة ظلوا غرباء غير مندمجين في السياسة والاجتماع وتعرضوا للاضطهاد ومحاولات الإبادة، وفي حالات كثيرة جدا كان التجار من غير اليهود يتعرضون للمصير نفسه، لأنهم كانوا غالبا غرباء حتى وإن لم يكونوا كذلك فقد كانوا مكروهين، .. البنوك والشركات المالية في الصرافة والأسهم والسندات والذهب والفضة ماتزال حتى اليوم تحمل ذاكرة وعلاقات وسلوك المرابين.
وقد تكون معرفة صادمة أن سياسة الحكم هي محصلة تحالف الغرباء من التجار الذين يملكون المال والصيادين الأقوياء والمنبوذين من أهل القرى والمدن، لكن في الحاجة إلى قوتهم التي توفر الحماية للناس صاروا ضرورة وإن كانوا مكروهين، وفي حاجتهم الى المال تحالفوا مع التجار، .. هكذا صارت القلاع في المدن التي لم تكن في الواقع سوى حصن للصيادين (صاروا حكاما) والتجار لحماية أنفسهم من الربض (المدينة المحيطة بالقلعة) وللعيش في حرية وسلام بعيدا عن فضولهم، وتخزين واحتكار فائض ما تنتج المدن والقرى، ثم بيعه للناس في غير مواسمها بأضعاف مضاعفة أو منعه عنهم لأجل إذلالهم وإخضاعهم، وسجن الغاضبين والمتمردين والعاجزين عن سداد قروض التجار والضرائب والأتاوات.. لم تكن السياسة على مدى القرون سوى الاحتكار ثم حماية الاحتكار ثم تحويله إلى معتقدات وأفكار ومشاعر متقبلة بل ويتحمس الناس لها ويموتون لأجلها.
الغد 2017-11-04