الإصلاح بما هو الاستقلال بين الحكم والدين والتجارة
تشكلت أفكار الإنسان بما هي تصوراته عن ذاته وعن الحياة والكون والموت والمصير بعد الموت وما نشأ عنها وحولها من معرفة وعلوم وتقنيات عن العلاقة الجدلية الدائمة بين موارد الإنسان وأسئلته وحاجاته ووجوده، وفي إدارته للخوف والبقاء وتحسين البقاء وتحولاته في ذلك من الصيد إلى الرعي إلى الزراعة إلى الصناعة أنشأ منظومته المعرفية والفكرية. ويبدأ تاريخ الأفكار بالفلسفة؛ بما هي السؤال؛ فالدين بما هو إجابات مقترحة لما عجزت الفلسفة عن إجابته، فالاجتماع بما هو استيعاب تطبيقي وحياتي للسؤال والجواب؛ أو ما أنتجته الفلسفة والأديان، فاللغة بما هي وعاء الأفكار والمعرفة وترميزها وتنظيمها، فالعلم بما هو إدراك الأشياء كما تفهمها الحواس، فالفنون والآداب بما هي التعبير المحسوس عن الأفكار والمشاعر، فالتاريخ بما هو تسجيل التجارب الانسانية على النحو الذي ينظم الأفكار فيما يحب الإنسان و/أو يريد و/أو يجب أن يكون عليه.
هذه الأفكار بما هي محاولة الارتقاء بالذات منحت الإنسان فعاليته الاجتماعية والروحية، ويفترض تبعا لذلك أن يصيبه الخواء عندما يحدث الانفصال بين الواقع وتصوراته عن الواقع، أو هو يرقى بذاته وموارده بقدر ما تقترب تصوراته التي أنشأها من الواقع. لكن وفي مسار آخر عندما تغيرت العلاقة بين الموارد والأفكار، حاول أهل الأفكار أن ينشئوا الواقع أو يشكلوه وفق تصوراتهم، ومنحوا الخواء شعورا بالزهو والطمأنينة واستعلاء على الواقع بما هو المعنى والتصور الحقيقي للحياة وجدواها، ودخلت العلاقة بين الموارد والأفكار في متاهة جديدة، فأهل الفكر من الفلاسفة والكهنة والمثقفين والشعراء والعلماء (كان المشتغلون في العلوم والطبيعة في ذيل القافلة، لدرجة أن غاليلو كان يعلم الفيزياء في الجامعة بأقل من عشر ما يتقاضاه أستاذ الفلسفة، وكانت أجرة الطبيب تتساوى مع أجرة الحداد) صاروا يحددون لأهل الموارد الأساسية تصوراتهم واحتياجاتهم، وفي الوقت نفسه كانوا يعتمدون عليهم في رزقهم ومعاشهم.
حدث التحول في العلاقة بين الموارد والأفكار مصاحبا لتحولها بين المدينة والصياد، ففي توظيف الصيادين الأقوياء والمهرة في الأمن والدفاع صاروا حكام المدينة، وفي حاجة الحكام إلى المال والقبول والشرعية تشكل التحالف غير الطبيعي بين الصيادين (الحكام) والتجار والكهنة، وتحولت هذه الطبقة من أُجَراء لدى المزارعين والمنتجين في القرى والمدن إلى سادة يملكون كل شيء. لم تكن النهضة المعاصرة بما هي الحرية سوى الاستقلال بين الحكم والدين والتجارة، وكسر التحالف والاحتكار الذي هيمن على العالم كله بلا استثناء سوى حالات وفترات محدودة لأكثر من خمسة آلاف عام.
وفي واقع الحال لم يكسر التحالف وإنما خفف من حدّته وغلوائه، فقد منحت الثورة الصناعية فرصا جديدة للأوليغاركيا لتجدد مكاسبها واحتكاراتها، وإن حصلت المجتمعات والطبقات على حريات ومكاسب اقتصادية اجتماعية مهمة ومتقدمة، ألغيت العبودية، ونظمت الأعمال والأجور والأسواق تنظيما أكثر عدالة، وانحسرت الهيمنة السياسية والدينية في معظم أنحاء العالم، وتحسنت صحة الناس وفرصهم في زيادة الدخل والتعليم والغذاء والسكن.
لكن الثقافة والأفكار ظلّت وبنسبة كبرى تتبع الأسواق والمجتمعات والسلطات على النحو الذي يعكس طموحاتها وأهواءها، وإن كانت أيضا تعبر ولو بنسبة أقل عن توق الإنسان الأصلي للارتقاء والمعرفة، وظلّ الغثاء والخواء ضريبة تستهلك معظم فضاء الثقافة والمعرفة للحصول على نسبة قليلة من السمو والتطور الروحي والاجتماعي، بل إن الثقافة والفنون تحولت بنسبة كبيرة لترسيخ الاستهلاك غير الضروري أو الضار والتلوث والشعور بالتميز والاستعلاء وترويح العنف والقتل، وتبرير التفاهة، ودفع الناس إلى ضد مصالحهم وأهدافهم في الحياة، وصار المثقف متسولا بالضرورة، يعتمد في معيشته على السلطة أو الشركات، إلا في حالة أن تكون الثقافة سلعة متداولة في السوق بقدر من العرض والطلب ينشئ اقتصادا ثقافيا. لكنه لم يكن إلا قليلا اقتصادا مستمدا من سموّ الناس وتطلعاتهم إلى الارتقاء، وهكذا فإن نستدل على التقدم والفشل بالقدر الذي تؤشر إليه الثقافة والفنون والمعارف من إدراك سليم للواقع والموارد، وما تقدمه لهما من نمو وتحسين وإدامة وارتقاء. لكن هل تتشكل اليوم في صعود الشبكية أو الثورة الصناعية الرابعة معان وعلاقات جديدة للموارد والثقافة والأفكار؟
الغد 2017-11-11