انتحار النفوذ الأمريكي
انهيار مفزع للنفوذ الامريكي في جنوب اسيا والباسفيك والمنطقة العربية، هذا ما عبر عنه الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي الالماني من على منبر الفضائية الالمانية DW مساء اول امس الجمعة؛ مفزع للدول الاوروبية بالتحديد بحسب قول الدبلوماسي السابق في تعليقه على الانتفاضة والهبة الشعبية والرسمية في العالم العربي والاسلامي للرد على قرار ترمب بنقل السفارة الامريكية الى مدينة القدس الشريف، مؤكدا ان ألمانيا لن تنقل سفارتها.
هذه احد اوجه الحقيقة الآخذة في الرسوخ على المستوى الدولي والاقليمي؛ فأمريكا تعاني من انهيار نفوذها وفقدان دورها القيادي المترافق مع فقدان للثقة بإمكانية استعادتها هذا الدور الامر الذي دفع القارة الاوروبية وسائر دول العالم إلى اتخاذ موقف مغاير للموقف الامريكي، مفاقما عزلة واشنطن وعجزها امام التحولات الحاصلة في اعقاب القرار الامريكي المتهور والاهوج.
حالة العجز والارتباك الامريكي عن المواجهة انتقلت سريعا الى أروقة الامم المتحدة ومجلس الامن، فأمريكا واجهت رفضا دوليا لقرارها الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، بل وجدت نفسها في موقف دفاعي هزيل جدا ومهزوز؛ اذ لم تلبث الامور ان تطورت بإصدار وزير الخارجية الامريكي عددا من التصريحات التي تعكس ازمة الادارة الامريكية، ليقول تارة إن القرار لن ينفذ هذا العام ولا العام القادم، وتارة اخرى إن القرار ليس نهائياً، ثم يتم تسريب انباء لم تؤكد عن توجيه الخارجية الامريكية خطابا الى الكيان الاسرائيلي بأن تنفيذ القرار الامريكي سيتأخر الى اجل غير مسمى، تصريحات لم تسعف الادارة الامريكية لامتصاص اثار القرار الارعن ولم توقف المد الشعبي في فلسطين او العالم العربي والاسلامي.
الأسوأ من ذلك اعلان «دينا باولا» مستشارة الرئيس ترمب استقالتها مبررة ذلك بالقول انها لم تكن تنوي البقاء في البيت الابيض اكثر من عام، علما انها لم تستكمل دورها ومشروعها السياسي في المنطقة مع شركائها كوشنر وغرينبلات وديفيد فريدمان لوضع خطوط عريضة وغامضة لصفقة القرن المزعومة، لتترك ترمب غارقا في ازمته في الشرق الاوسط، ومتجنبة النتائج والتداعيات المترتبة على الفشل على مستقبلها السياسي على الارجح.
القافزون والفارون من مركب الرئيس ترمب سيسارعون على الارجح الى اللحاق بها بعد توريط ترمب في مواقف سياسية غير محسوبة لا تتمتع بالعقلانية؛ اذ تمثل انعكاسا لمواقف ايدولوجية جامدة وبائسة افقدت الولايات المتحدة دورها القيادي وجعلتها طرفا مباشرا في الصراع العربي الاسلامي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري.
الادارة الامريكية تبدو مهزوزة ومأزومة اكثر من ذي قبل، ونفوذها ينهار بتسارع في العالم والاقليم بشكل افزع اوروبا ودفعها لاتخاذ مواقف تعزلها عن امريكا لتبقى وحيدة في الميدان، والاهم من ذلك أن القوى الدولية والاقليمية وجدت في القرار الامريكي فرصة لتكريس هذا الواقع؛ فالرئيس الكوري الشمالي التقط اللحظة سريعا معلنا انه لا يوجد دولة تسمى «اسرائيل» لتكون القدس عاصم لها، مخلقا لنفسه شعبية في العالم العربي، ومخلقا قدرا من التعاطف مع بلاده التي تعاني من الحصار والتجويع.
الصين لم تبتعد كثيرا عن هذه الرؤية؛ اذ رأت في القرار فرصة لتشيت الجهود الامريكية في الباسفيك وشبه الجزيرة الكورية، خصوصاً أن الصين وقعت اتفاقا بإنشاء خط ساخن مع اليابان قبل ايام للتواصل وتنسيق جهودهما (اليابان والصين) لحفظ الامن وتجنب الصدام العسكري بعيدا عن امريكا؛ فالصين تمكنت من نسج اولى معالم حقبة السلام الصيني في جنوب شرق اسيا والباسفيك من خلال هذا التطور المهم في العلاقة مع اليابان؛ امر سيتعزز بتحويل بوصلة الصراع الى الشرق الاوسط بشكل يستنزف القوة الامريكية ويضعفها في الساحة الدولية ويفقد الثقة بدورها القيادي باعتبارها قوة يعتمد عليها لتحقيق الاستقرار.
الاهم من ذلك ان الصين وروسيا ومن خلال مجلس الامن طرحت نفسها كوسيط ولاعب في ادارة الصراع في «الشرق الاوسط» من خلال بياناتها السياسية وخطابها في مجلس الامن ليطرح مشروع السلام الروسي- الصيني بديلا للسلام الامريكي الذي استند بدوره إلى شرعية دولية تنكرت لها امريكا، كما استند الى اتفاقات سلام تجاوزتها الادارة الامريكية (كامب ديفيد واوسلو ووادي عربة) بالانقلاب على مرجعيتها السياسية كأساس للحل السياسي في المنطقة، لصالح مرجعية عدمية تستند الى مواقف ايدولوجية لليمين الامريكي التي يقف على رأسها كوشنر وغرينبلات ودينا باول المستقيلة وديفيد فريدمان.
انتفاضة القدس تحولت الى مناسبة لتقويض النفوذ الامريكي في العالم، مناسبة لإنهاء الدور القيادي الامريكي، معززا بأزمة سياسية داخلية امريكية خانقة، فأمريكا في اضعف حالاتها مهزوزة وعاجزة عن اتخاذ اي قرار؛ فالتراجع بات خيارا انتحاريا بالنسبة لترمب وطاقم إدارته، كما ان البقاء في ذات المربع يمثل انتحارا سياسيا وامنيا للنفوذ الامريكي في النظام الدولي مفارقة قوية ومدمرة في كلتا الحالتين.
السبيل 2017-12-10