دبلوماسية الوعيد والتهديد
لو أن المزاج العام يحتمل روح الدعابة وخفة الظل، في مثل هذه الظروف المتأزمة، لدعونا الكتاب وذوي الرأي الى تقديم الشكر الى المندوبة الاميركية في مجلس الامن الدولي، على استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار العربي الخاص بمدينة القدس، ولأظهرنا تشفينا على رؤوس الاشهاد بقول السيدة نيكي هيلي إنها تشعر بإهانة لا تغتفر، جراء وقوف المجلس بجميع اعضائه في جانب، ووقوف اميركا في جانب، وسط مشهد لا يليق بالدولة العظمى الوحيدة، ولا يتماشى مع مكانتها كدولة تتربع على اعلى مرتبة في بنية النظام العالمي.
دعونا نتخيل للحظة ان الولايات المتحدة شعرت بالحرج فجأة، وامتنعت عن التصويت، وسمحت لمشروع القرار الذي تجنب ذكرها بالاسم ان يمر بعد كل التعديلات عليه، فهل كان لمثل هذا القرار ان يضيف شيئاً يذكر الى اثني عشر قراراً صادراً عن المجلس نفسه، تتعلق جميعها بحاضر القدس ومستقبلها دون طائل؟. وهل كان للإجماع الدولي ان يغير وضعاً قائماً على الارض، طالما ان الدولة القائمة بالاحتلال تعتبر نفسها فوق القانون الدولي، ولا تأبه كثيراً بقرارات مجلس الامن والشرعية الدولية، نظراً لتمتعها بإسناد اميركي لا حدود له؟
وعليه، يمكن النظر الى الفيتو الاميركي، الذي أدى الى عزل واشنطن، على نحو لم تعهده من قبل، على انه الضرر الذي أنتج منافع كثيرة، حتى لا نقول انه كان ربحاً صافياً للقضية الفلسطينية، حيث ضاعف من المكاسب التي عادت على قضية القدس، ورفعها الى المرتبة الاولى على جدول الاهتمامات الدولية، وفتح الطريق اوسع من ذي قبل امام جملة من الاجراءات التي كانت السلطة الفلسطينية تمتنع عن اتخاذها على صعيد الانضمام الى 522 معاهدة ومنظمة تابعة للأمم المتحدة، ناهيك عن الحصول على العضوية الكاملة في المنظمة الدولية؟
ولا تتوقف العوائد المنتظرة عند حدود المكاسب الدبلوماسية، التي ستتراكم على نحو تدريجي في المستقبل القريب، وانما تجاوزتها الى ما هو اهم من ذلك، ونعني به تحريك المياه الراكدة في البركة الفلسطينية، بما في ذلك اطلاق موجة ثورية في الشارع الفلسطيني تعد بانتفاضة جديدة طال انتظارها، وخلق حالة وطنية يمكن الرهان عليها لرد الاعتبار للعامل الذاتي كمحرك للفعاليات الاقليمية والدولية الاوسع نطاقاً، وتجديد الدماء في عروق المؤسسات الفلسطينية، وربما التعجيل في انهاء الانقسام، واستعادة تلك الصورة المفتقدة منذ الانتفاضة الاولى.
وزاد الطين المبلول بلة، ان الادارة الاميركية المصدومة من ردة فعل المجتمع الدولي ازاء احادية قرارها الاستفزازي هذا، لم تجد لديها ما تدافع به عن سياستها الخرقاء سوى اللجوء الى دبلوماسية الوعيد والتهديد، لمعاقبة كل دولة قد تصوت في الجمعية العامة ضد تنكرها للقانون الدولي، في سابقة غير مسبوقة في العلاقات الدولية، أحسب أن من شأنها أن تضاعف من العزلة الاميركية، وأن تضع الدولة القائدة للنظام الدولي في مأزق لا تحسد عليه، جراء اعتمادها منطق القوة بدلاً من قوة المنطق المعمول به، وقد تجردها من الهيبة التقليدية للولايات المتحدة.
واحسب ان الولايات المتحدة باتت اليوم في وضع اكثر حرجاً واقل نفوذاً، بعد التصويت المشهدي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي ترى بأم العين الغالبية الكاسحة من دول العالم، بما فيها اوثق الدول الحليفة لها في اوروبا، تنتصر للقانون الدولي بشجاعة، وتقف الى جانب الحق الفلسطيني دون مراء، فيما البلد الاعظم والأقوى يقف الى جانب الأقلية، مجرداً من قيمه الاخلاقية ومن قوة نفوذه الهائل، يقف على الجانب الخطأ من التاريخ، يهمّش نفسه، ويخسر مركزه كوسيط موثوق به، دفاعاً عن اشد السياسات الاسرائيلية يمينية وعنصرية.
واذا كان صحيحاً ان ما تحقق من مكاسب وانجازات متفرقة، على مدى العقود الطويلة الماضية، كان بفضل سلسلة لا نهاية لها من النضالات العنيدة، والبراعة السياسية، والتضحيات الجسيمة، فإن من الصحيح ايضاً ان الغطرسة الاسرائيلية من جهة، والعماء السياسي الاميركي من جهة اخرى، قد اسهما على نحو متفاوت في تحقيق هذه المنزلة الفريدة، وهذا الدعم الدولي الواسع، الذي تتمتع به اليوم القضية الفلسطينية، تماماً على نحو ما تجلى عليه الأمر في ردهات المنظمة الأممية.