رأيتُ عبدالمحسن قطّان
عندما أعلن دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لدولةٍ يراها يهودية، كانت قد مضت أيام على وفاة عبدالمحسن قطّان. وعند دراسة قرار ترامب، يتضح دور المال اليهودي الصهيوني المُقامر، عبر رجل كازينوهات لاس فيغاس، شيلدون أديلسون، وهو ما وثّقتُه في مقال قبل أسبوعين.
احترتُ حينها هل أخصص المقال لقصّة أديلسون المقيتة، أم لسيرة قطّان؟.
لم أتحدّث إليه يوماً، وأتساءل الآن لماذا فوّتُ فُرَص المصافحة؟
رأيتُهُ في لقاءات وحلَقات نِقاش تنعقد بمبادرات مراكز تفكير وأبحاث، في فلسطين وخارجها. كان أبو هاني، يأتي، يجلس، يستمع لجزء من اللقاءات، ثم يغادر بهدوء.
عقب وفاته، أحسستُ أني عرفته عبر مؤسساته، ومشاريعه. تأثر عشرات آلاف البشر، في حياتهم بما قدّم. وجود أمثال قطّان وحسيب صباغ وعبدالمجيد شومان، في حياة الشعب الفلسطيني، عزاءٌ، أنّه شعب قدّم حتى عبر أثريائه ورجال أعماله، وهم أكثر رُقّياً وكَرماً من أمثال أديلسون وروتشيلد، وسيأتي يوم تُقطَف ثمار تضحيات الفدائيين وعطاء هؤلاء، لأنهم آمنوا بالإنسان.
غادر مدينته، يافا، العام 1947، وهو ابن الثامنة عشرة، للدراسة، وكان والده قد توفي، محمّلا بما أخبرته أمّه المصريّة الأصل عن والديها اللذين هربا لفلسطين من معسكرات السُخرة والعمل الإجباري في بناء قناة السويس، نهاية القرن التاسع عشر.
كان مُعجباً بخليل السكاكيني، المربي الفلسطيني العربي، صاحب منهاج "راس روس" الذي تتلمذت عليه أجيال، وهو الذي ترك نيويورك العام 1907 وعاد يبني مدرسته في فلسطين، وحينها اشترك مسيحيان ومسلمان في تلك المدرسة، التي منعت العقاب، وعلّمت الطلاب مهارات منها الصحافة والإعلام، ودرس فيها قطّان. اختار دراسة العلوم السياسية والاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت. ولكن السفن لم تجرِ كما اشتهى، فالنكبة جعلته يعود لفلسطين بحثاً عن والدته ولم يعثر عليها، فقد لجأت للأردن، حيث التم شملَهما، ولعل الوضع المُعدم اقتصاديّاً جعله ينتقل لدراسة إدارة الأعمال.
اكتشفتُ سبباً آخر كان يجب أن أصافحه لأجله؛ فأنا أحب مدرستي الكليّة العلمية الإسلامية، في عمّان، ووجدتُ أنّه عمل فيها مدّرساً، العام 1951. وصل الكويت في الخمسينيات وهناك بنى امبراطوريته الاستثمارية، كان يبنيها بيد ويعمل لفلسطين بيد، فاشترك في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وانتُخب رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني. وتشمل أعمال شركاته، بناء مطارات، وبنوك، وفنادق، ومؤسسات تعليمية، ومستشفيات، وغيرها.
قطّان مؤسس وممول أساسي لمؤسسة التعاون صاحبة النشاط في كل فلسطين.. دخلتُ مؤسسته الثقافية في لندن، أشاهد معارض التاريخ الفلسطيني.. بنى مركز القطان في غزة للأطفال، على مساحة 3 آلاف متر. وتحتل مؤسسته الثقافية النشطة، مبنى قديما جميلا في رام الله، ولكن المبنى الجديد يُبنى للمؤسسة، بمساحة تقترب من 8 آلاف متر مربع، سيكون أنموذجا لمبانٍ خضراء يُؤمّل أن تكون بداية تطوير عمراني صديق للبيئة. وهذا وغيره الكثير، مما يكلف عشرات الملايين، ممكن، بسبب تخصيصه العام 2011 ربع ثروته للعمل الثقافي والوطني العربي والفلسطيني. دعمَ عشرات المؤسسات، منها جامعته الأميركية ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وجامعة بيرزيت في فلسطين.
مشاريعه مبادراتٌ لإنسانٍ يريد استئناف الجمال، ونشره في المحيط العربي. يقول هو وابنه عمر، إنّهما يؤمنان أن الثقافة هي، ويجب أن تكون، ما يشتهر به الفلسطينيون، والعرب، وأنّهما يفعلان ذلك لأنهما يريدان "تحرير فلسطين".
لعل السعي لاستعادة الفرح عنوانٌ يمكن وضعه لقصة يرويها الصديق هاني المصري، مدير مركز مسارات، أحد أنشط مراكز التفكير في فلسطين، والذي أسسه قطّان أيضاً، فيروي كيف تعرف على "أبو هاني" عام 2008 عندما عاد للوطن للحصول على هوية ورقم وطني فلسطيني، وهو الذي يمكنه الحصول على أي جنسية، يقول "كان سعيدًا مثل الأطفال بحصوله على رقمه الوطني"، وهو يتجول من مدينة لأخرى في فلسطين يتحدث للناس، ويروي الكثير عنه، وعن زوجته ليلى (أم هاني)، شريكته وملهمته في العمل الوطني الثقافي، صاحبة الدور في مشاريع ثقافية كبرى.
رغم إحباط الواقع العربي، والفلسطيني، يمكن لشاب وشابة أن يقرآ سيرة عبدالمحسن قطان، وهما يدخلان مركزا للدبكة، للفن، للتعليم، للعلاج، للدراسة، للتفكير، لمكتبة، لجامعة، أو لأي شيء آخر بناه، فيرفعا رأسيهما عالياً ويريا يوم العودة إلى يافا.
الغد 2017-12-22