عام ترامب..!
خلال العام المنقضي، صنع الرئيس الأميركي غريب الأطوار الحدث في منطقتنا والعالم. وكان وصوله إلى الرئاسة في الولايات المتحدة في حد ذاته حدثاً صدم العالَم، بالنظر إلى مختلف الخلفيات والصفات التي خالطت تاريخه وحملته الانتخابية. لكنه لم يكفّ عن إدهاش العالم كل يوم تقريباً، عارضاً ما يفوق التصورات من الصلافة وكسر الحدود.
أما نحنُ في هذه المنطقة، فلا نستطيع أن نذكر لهذا الرجل حتى فضيلة واحدة. وكان استهدافه لنا واضحاً بشكل خاص، بدءاً من مواقفه المتعصبة ضد العرب والمسلمين في بلده وحظر سفرهم إليه، مروراً بالازدراء المتواصل لشعوب المنطقة –وقياداتها- في كل مناسبة وزمان، وصولاً إلى قراره الأخير الاعتراف بالقدس العربية عاصمة لكيان الاحتلال ضد كل الرغبات الفلسطينية والعربية والعالمية.
مع ذلك، يعتقد البعض بأن للرجل فضائل في الحقيقة، سواء في بلده نفسه أو في الأماكن الأخرى. ولعل فضيلته الأبرز هي أنه أسقط القناع عن حقيقة ونوايا بلده التي كان أسلافه يحاولون إخفاءها وتجميلها بالدبلوماسية والحديث المراوغ. وحقيقة أميركا هي أنها بلد يحترف الغطرسة والنرجسية وجنون العظمة والتفوق. ولا تكتفي هذه الدولة المتنمرة بمعاملة كل البلدان الأخرى على وجه الكوكب وشعوبها بازدراء كامل، وإنما تحتفظ بالجذور العميقة للتمييز العنصري البنيوي في نظامها أيضاً. وقد أبرز ترامب هذه الصفة في رد فعله على الأحداث بين التفوقيين الشوفينيين البيض في مقابل الأميركيين الملونين، حين ساوى بينهما.
أما ازدراء العالَم كله، فظهر بوضوح كامل في مناقشات قرار ترامب بخصوص القدس في الأمم المتحدة والجمعية العامة. فبالإضافة إلى ضرب كل القرارات الأممية والشرعية الدولية بعرض الحائط، هددت مندوبة ترامب في الأمم المتحدة بتسجيل أسماء الذين يعارضون مشيئة الرئيس، ومعاقبتهم بعد ذلك، تماماً مثلما يفعل الفتوة الهمجي في حارة شعبية. والكل يعرف أن أسلاف ترامب لم يكونوا أفضل من حيث الجوهر، حيث عطلوا دائماً تطبيق القرارات الدولية وتجاهلوا الأمم المتحدة–أو ابتزوها- كما يحلو لهم، لكنهم كانوا على الأقل أكثر تأدبا في الحديث مع العالم. لكن الصفاقة التي عبر عنها ترامب هي فضيلته، لعل الصراحة تستنهض كرامة الآخر المُهان فيردُّ، أو يعترف بموقفه الدوني إذا التزم الصمت.
بالنسبة لنا نحن العرب، ربما تكون فضيلة ترامب هي أنه وضعنا أمام مرآة صادقة دقيقة الأبعاد. فبوضعه خيارات واضحة أمام قيادات المنطقة، أجبر الجميع على توضيح موقفهم أيضاً تجاه قضايا كان بالإمكان التغطية عليها وإخفائها تحت السجادة. وكان موقف ترامب من العرب واضحاً قبل أن يصبح رئيساً بكثير، حين قال إنَّ على الأنظمة العربية أن تدفَع نقدا ثمن حماية الولايات المتحدة لها. ثم تقاضى، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، مليارات الدولارات ثمن اسم "حلفاء" أميركا.
في تعامله مع ديناميات المنطقة، أجبر ترامب القادة على إيضاح موقفهم بشأن العدو الصهيوني، المتناقض بوضوح مع عواطف الشعوب كما اتضح في اختبار القدس مؤخرا. ومع أن الموقف العربي الرسمي من هذه المسألة لم يرقَ إلى صيانة كرامة مواطني هذه المنطقة، فإن هناك فائدة ربما تكون في وضع الأمور على الطاولة بدلاً من سريان تيار التطبيع مع العدو من تحت الجميع والتظاهر بالعكس.
أما أكبر خدمة قدمها ترامب، فهي للفلسطينيين بالتحديد. فقد قال الرجل بوضوح إن بلده لا يهتم أبداً بالشعب الفلسطيني وبحقوقه وأمانيه. وأعلن أن قيادة بلده لما تدعى "عملية السلام" هدفت دائماً إلى ترسيخ الاحتلال ومماطلة الفلسطينيين وعدم وجود أي نية لإنصافهم. وقد أصبحت الكرة الآن في ملعب الفلسطينيين الذين ينبغي أن يتعلموا الدرس، ويبحثوا عن بدائل أخرى غير وساطة الأميركان والتعلق بحبائل "عملية السلام" لتحقيق طموحاتهم الوطنية.
في كل منعطف من العام المنقضي، كان ترامب "وراء الباب"، مساهِماً في حياكة أقدار المنطقة والناس هنا ودفعهم إلى وجهات قاتمة. وبالوسع تقدير أيّ عام كانه 2017 الذي احتل فيه هذا الرجل غير المحبب صدارة المشهد ومنصة الخطاب كل الوقت. علّ الله ينجينا من الآتي!
الغد 2017-12-31