لماذا يصدق الناس الأكاذيب؟
من أكثر سمات العام المنصرم استمرار النزوع إلى تصديق الأكاذيب الإعلامية والأخبار المزيفة، مع تراجع حضور وسائل الإعلام الإخبارية المحترفة، وبالتالي تراجع ثقة الجمهور بمصادر الأخبار بشكل عام، ولعل من الطريف التذكير بتعليق لإحدى وسائل الإعلام المحترفة يقول إن أكبر كذبة في العام 2017 ادعاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه هو من اخترع مفهوم "الأخبار الزائفة"، وهنا نستذكر أنه في العام 1689 صدرت صحيفة لندن جازيت بشعار جديد على رأس صفحتها الأولى يقول "تهدف هذه الصحيفة إلى القضاء على الأخبار الكاذبة" في إشارة إلى أن الأخبار الكاذبة قصة لها تاريخ طويل.
لكن، لماذا تجذب الأخبار الزائفة الناس؟ ولماذا يصدقها الكثير منهم؟ تفيد بحوث علم النفس في مجال الاتصال أن الناس أميل إلى الاحتفاظ بالمعلومات الكاذبة وأنصاف الحقائق على الرغم من معرفتهم وإقرارهم أحيانا بأنها كاذبة، وعلى الرغم من محاولة التخلص منها، إلا أن المعلومات الزائفة تثبت أكثر ويحتفظ بها الناس وتؤثر في طريقة تفكيرهم وأحكامهم، بمعنى أن عمليات التعويض بالحقائق قد لا تفعل بقوة الإشاعة وثمة قوة كبيرة للانطباع الأول الذي يتشكل.
يذهب الناس إلى الإشاعات والأكاذيب أو أنصاف الحقائق أكثر لأنها عادة ما تكون ذات بعد عاطفي، ما يجعلها أكثر جاذبية وجمالية وأكثر إثارة، وهذا ما تفتقده في أحيان كثيرة الحقائق؛ إن قوة العاطفة تغلب قوة المعرفة. السبب الثاني أن القص والسرد وعناصر الحبكة تلعب الأدوار الأساسية في الميل للتصديق؛ فالكذبة أو الإشاعة مكون تم التخطيط له بعناية. أما السبب الثالث الذي تورده البحوث فيرتبط بالعمر والمستوى التعليمي للأفراد والاختلاف من مجتمع إلى آخر؛ أي مدى انتشار ثقافة التفكير النقدي والشك وسط الأفراد ومدى قدرتهم ورغبتهم في التحقق من كل ما يقال لهم.
من المعروف في دراسات الاتصال أن نحو 60 % من الرسائل التي يتبادلها الناس يوميا وبشكل وجاهي هي عبارة عن إشاعات ونميمة وخيال وتكهنات، ولكن بات من الواضح مؤخرا أن نسق الإشاعات قد تغير بشكل كبير كميا ونوعيا بفعل التكنولوجيا والأدوات الجديدة، في السابق كان الأصدقاء والأقرباء يتواطأون في تصديق الإشاعات من باب المجاملة وعدم الإحراج، اليوم تتواطأ مجتمعات في تصديق التلفيق السياسي وفي جعل الأخبار الزائفة والأكاذيب السياسية جزءا أساسيا في إدارة الصراعات المحلية والدولية.
إن معركة كبرى تدار رحاها اليوم وتعصف حتى بفكرة حرية الإعلام والحق بالاتصال والمعرفة النزيهة، ونلاحظ في هذا الوقت ماذا يحدث في أعرق الديمقراطيات كيف تغوي التكنولوجيا الجديدة السياسيين لتغيير قواعد اللعبة، وكيف تستخدم المنصات الرقمية الفردية في عناد وسائل الإعلام المهنية، وكيف تساق المجتمعات لجاذبية التضليل وسط سيل جارف من تدفق المعلومات والأخبار، إلى الوقت الذي يفقد الفرد القدرة على التمييز ونفتقد ما كنا نسميها الحواس والقدرات الانتقائية لدى الجمهور.
الجمهور ضحية للطريقة التي يستخدم بها السياسيون والناشطون والمؤسسات الوسائل الجديدة وسط تعدد وتنوع الفاعلين في البيئة الإعلامية الجديدة لحد لا يمكن حصرهم أو تحديدهم، علاوة على القدرة على إخفاء الهويات وتبديلها وتزييفها، ثم قوة الاتجاه السائد الذي قد يُصنع بسهولة كتب فيلسوف الاتصال الشهير (نحن نصنع الادوات والادوات فيما بعد تصنعنا وتصنع الثقافة السائدة، وربما تتحكم بنا).
الغد 2018-01-01