تربية الحرمان وصناعة النكد!
1-
تنتبه أحيانا من نومك، ذات صباح، فتشعر أنك محض حطام أو كلمات مبعثرة، ولكنك سرعان ما تتجمع، وتلتئم شقوقك، بكلمة جميلة، او هاتف عذب، أو حتى خاطر لذكرى جميلة..
لو علمنا قيمة هذه المبادرات الجميلة، لكانت الحياة أكثر احتمالا بكثير!
كثير من رواد شبكات التواصل الاجتماعي انتبهوا لهذه المسألة، فأدمنوا توزيع الفرح والابتسام صباحا على أصدقائهم، ببسمة أو صورة زهرة، أو حكمة لطيفة، وكثيرون يبشرونك بالخراب والموات والفقر والويل وعظائم الأمور!
-2-
في فلسفة اللذة.. لا تكن كالأثرياء الذين يبنون القصور، كي يسكنها ورثتهم!
وفي فلسفة اللذة أيضا.. تعلم أن تستمتع بك!
أجمل ما في الكأس، لا ليس ما في قعره، ولا الرشفة الأولى، ولا نصفه الممتلىء بل في أن تملأه كاملا ويفيض، وكلما ارتويت منه، عدت وملأته!
في أعماق كل منا ينابيع من النشوة، هل جربتم كيف تستمتعون بأنفسكم، وتستثمرون مخزوناتكم من اللذة؟
أحيانا، حتى ونحن في قمة النشوة، نحتاج للقليل من الشقاء؛ كي نستلذ بحلاوة اللقاء!
-3-
ثمة بوح صامت، وبوح صارخ، البوح الصامت أكثر نفاذا إلى سويداء الروح، وغير قابل للتأويل، كالبوح الصارخ..
البوحُ الصّامت... أنْ تَثْمل بذلك النبيذ الذي لم يُعْصر بَعْد؛ ولمْ يَزل مُخْـتَـزَنًا في كُروم العِنَب.
..وبعض الكلام يحتاج قراءة ثانية وثالثة، أما الصمت.. فهو الذي يقرؤنا؛ لأن ما يقوله، أكثر بكثير مما لا يقوله!
-4-
في بعض الأحيان، تنتقي من الكلام أعذبه، ومن المشاعر أروعها، ومن الخفقات أكثرها إطرابا، ومن الهمسات ما يثير القشعريرة في القلب، ولكنك -للأسف- لا تجد من تجود بها عليه، أو لمن تهديها، فتدخرها لمن يستحق، حتى إذا طال انتظاره، وفتحتها، وجدتها إما منتهية الصلاحية، أو غير صالحة للاستعمال!
قال الشاعر الجاهلي: أوزع جسمي في جسوم كثيرة.. إلخ،
ترى.. كم جسما تحيي لو فكرت بالتبرع ليس بأعضائك، بل بما تمتلك من مخزونك من الفرح الذي قد تنتهي صلاحيته وهو مخزن في المستودعات؟
كل منا يمتلك ثروة ثمينة، ليته يعرف، كيف يستثمرها، ويَسعد بها، ويُسعد الآخرين، وليته يعرف أيضا، أن كثيرين يتمنونها!
كم يخسر أولئك الذين تمر بهم لحظة فرح عابرة، ولا يعطونها تأشيرة إقامة دائمة !
-5-
في الشرق، نربي الحرمان، ونتعهده بالعناية، كما نربي أطفالنا، ونرضعه من حليب الكبت، والقهر، وحين ينفجر في وجوهنا، نصرخ وننادي بالانتقام، غسلا للعار!
كم كلمة أحبك محتبسة في حويصلات أبناء الشرق، تغص بها حلوقهم، ولا يقولونها.. إلا بعد فوات الأوان، فتنفجر ... كما تنفجر الزائدة الدودية!
-6-
إلى أمي التي لم تلدني بعد: كل صباح، حينما أستيقظ، أشعر برغبة عميقة بالاعتذار، وأتساءل: كيف تجرأت على ألا أحلم بكِ؟
خارج النص
تلك مختارات من زمن مضى، لم تزل صالحة للاستهلاك البشري، إن وجدت من يستهلكها!
الدستور 2018-01-05